خاص|| أثر برس ما من موت عَرَضي، كل موتٍ هو حدثٌ فريد في الظاهرة البشرية، وخاصة إذا جاء في معنى الواجب أو القدسي، سواء وقع على “الآخر” أم على “الأنا”. ويتخذ الموت أبعاداً أكثر درامية عندما يكون متبادلاً وقوياً ورمزياً. انظر إلى حجم “الاستدعاء” و”التمثل” للقيم الدينية والتاريخية والوطنية في ظاهرة الموت، إلى جانبي خطوط الصراع واصطفافاتها وخرائطها في الإقليم (والعالم).
قتل من دون توقف
قد تكون الحرب في فلسطين ولبنان منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023 هي الأكثر دموية في تاريخ الصراع مع “إسرائيل” حتى الآن. وبحسب تقديرات متداخلة، وهي بالطبع غير دقيقة، شهِد يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 في محيط قطاع غزة، مقتل 1143 معظمهم من “الإسرائيليِّين”: 767 مدنيَّاً، بينهم 71 أجنبيَّاً، و376 من العسكريين والأمنيين. وأسر أو اختطاف قرابة 250 شخصاً آخرين. في حين قالت “مصادر إسرائيلية” إنه قُتِل أكثر من 1600 من المقاتلين المهاجمين. لكن هذا مجرد بداية، وقد أصبح الموت فائقاً ومهولاً، يرافقه تدمير غير مسبوق للحياة في هذا المشرق الجميل والمنكوب بالاحتلال والصراع والفساد والتخلي!
يقع القتل من دون توقف، عدد كبير من الضحايا، ومئات آلاف الأطنان من المتفجرات تُلقى على المدن والأحياء والضواحي. وتخريب مُمنهج للذاكرة الثقافية والتاريخية والآثار والبنى التحتية والموارد المائية والغابات والمزارع..إلخ، واستخدام أحدث تقنيات ووسائل القتل الجماعي والفردي، في نوع من “الإبادة الجماعية” غير المسبوقة في التاريخ القريب.
منظور “إسرائيل”
بالمقابل، قد يكون حدث 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 هو الأكثر كارثية من منظور “إسرائيل”، ليس في حجم الموت في يوم واحد فحسب، وإنما في صدمة الحدث نفسه أيضاً، وكيف مَثَّلَ تهديداً غير مسبوق أيضاً لـ “إسرائيل” منذ إعلان تشكيلها الكارثي على أرض فلسطين في العام 1948، ولاحقاً حجم وطبيعة المواجهات والاستهدافات في عمق “إسرائيل” نفسها. المهم أن الموت وخوف الموت وقع على الإسرائيليين بشكل لم يعهدوه من قبل.
وحرصت “إسرائيل” وحلفاؤها على تشبيه الحدث الفلسطيني (هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023) بـ”الهولوكوست” النازي، بحسب “السرديات الإسرائيلية والغربية”. ولا وجه للربط أو التشبيه بين هذا وذاك، إلا أن يكون الهدف وصم المقاومة بـ”النازية”، وإظهار المعتدي بمظهر المعتدى عليه، وعد كل مناهضة للصهيونية والاحتلال عداء للسامية واليهود والغرب والعالم المتحضر! وهذا ما كان في الغرب حيال الانتقادات والاحتجاجات المناهضة للعنف الفائق من قبل “إسرائيل” في قطاع غزة.
في معاني الموت
لكن الحدث الفلسطيني لم يكن في معنى وأفق “إبادة إسرائيل” ولا “معاداة السامية”. ثمة في وعي ولا وعي العرب تمييز بين اليهودية والصهيونية. هذا خط لا يمكن تجاهله، ولو أن كثيراً من مؤيدي “إسرائيل” ومناهضي المقاومات في الإقليم يصرون على تجاهله أو التنكر له. وهذا لا يغفل وجود من يُماهي بينهما (اليهودية والصهيونية) من العرب: المسلمين والمسيحيين واللادينيين، أو ممن لا ينظرون لأنفسهم وللعالم من منظور ديني.
أظهر الحدثُ الإقليمي في العام 2023-2024، وخاصة الحروب في فلسطين ولبنان الموتَ بوصفه:
- حدثاً عَرَضِيّاً، بتعبير مستعار من فرويد. وهكذا، يتكرر الموت في كل لحظة، ثمة عشرات آلاف القتلى والمصابين، ومئات آلاف المهجرين في الحرب على غزة ولبنان خلال عام واحد. تزعم “إسرائيل” أن هذا الموت أو القتل ليس مقصوداً بذاته، وأنه يأتي في سياق ردة الفعل ومواجهة المقاومين. وهذا زعم غير صحيح. إن جانباً كبيراً من القتل والموت والتدمير يقصد به معاقبة الناس، وخاصة البيئات الحاضنة للمقاومة، وتدفيعهم أثماناً كبيرة بسبب المقاومة، فضلاً عن دفعهم للهجرة بقوة الموت والقتل أو قوة الخوف أو جعل الحياة غير ممكنة.
- حدثاً لازماً أو ضرورة، من منظور القاتل (والقتيل). إذ إن التمييز بين المقاومين والناس العاديين أمر مستحيل، كما أنه غير مجدٍ أو غير مبرر في منطق الحرب والعنف الإسرائيلي نفسه. القتل والموت ضرورة ليس بالمعنى التكتيكي وإنما بالمعنى الاستراتيجي. وصادَقَ الغربُ على قتل “إسرائيل” المدنيين إذا كان في ذلك في خدمة الحرب. كما قالت وزير خارجية ألمانيا خلال زيارتها تل أبيب في تشرين الأول/أكتوبر 2024، وفعل ذلك مسؤولون من أمريكا ودول أوربية عدة.
- حدثاً نسبياً في نظام القيم، الموت هنا ليس الموت هناك، الدم مختلف، والهوية مختلفة. فإذا كان القتيل فلسطينياً أو لبنانياً فهذا أمر يقع على أفراد أو جماعات أو شعوب هي “تحت الموت”، ووجودها “لا قيمة له”، أما إذا وقع على إسرائيلي أو أمريكي أو أوربي، فهذا جرم بحق الإنسانية يستوجب رداً، غالباً ما يكون “لا متماثلاً”.
- إهدار الإنسان، من قبل “الإسرائيلي” أو الغربي، وهو في جانب منه، إهدار ذو جذور قديمة أو راسخة في نظم المعنى والقوة لدى الغرب: أولئك الشرقيون أو العرب، الذين يجب أن يبقوا على هامش التاريخ، موضوعاً للرغبة والمصلحة، وأوراقاً تستخدم في منافسات وصرعات المعنى والقوة في العالم.
- حدثاً يصدر عن الذات، هو قتل وموت بفعل الذات أكثر منه بفعل الآخر، أي بمعنى التضحية في المواجهة. ولهذا طابع معنوي وجهادي، وربما شرعي (بالمعنى الديني والفقهي)، وبالطبع معنى وطني وإنساني.
يُقال في الأخبار: أدى قصف “إسرائيل” مجمعاً طبياً إلى عدد من الضحايا يتراوح بين ثلاثمئة إلى أربعمئة شخص. الفارق في صياغة الخبر هو مئة ضحية. كما لو أنها تتحدث عن عدد ثلاثة إلى أربعة ضحايا! وإذا كانت الضحايا في الاعتداء التالي أقل عدداً، فهذا “مؤشر إيجابي”، من منظور الميديا والإعلام، والذي سرعان ما ينتقل إلى عقول المتلقين!
موت لا متماثل
المفارقة أيضاً، وفي هذا تأكيد ما ورد أعلاه، أن المواجهات مع “إسرائيل”، سواء في غزة أم في جنوب لبنان، أدت إلى موت “لا متماثل”، لا مقارنة بين أعداد الضحايا، وتهجير “لا متماثل”، ولا مقارنة بين أعداد المهجرين أيضاً. لكن الأعداد لدى العرب أكبر بكثير مما لدى “إسرائيل”. ثمة في الإعلام ووسائط الاتصال والرأي العام مقابلة موجعة: عدد قليل، لكن يعد كبيراً، لماذا؟ لأنه إسرائيلي. وعدد كبير من الضحايا في فلسطين ولبنان، يُعَدُّ قليلاً أو لا يعتد به، لماذا؟ لأن القتلى فلسطينيين ولبنانيين وليسوا إسرائيليين. الحيوات والأنفس والأروح ليست واحدة.
الوهم واللا معنى
الواقع أن موت الفلسطينيين واللبنانيين مُؤَّيد من قبل عرب كثيرين. كما لو أن السرديات حول “أمة عربية” أو “أمة إسلامية”، هي نوع من “الوهم” أو “اللا معنى” أو “المخيالية الإيديولوجية” منتهية الصلاحية، إن أمكن التعبير، ويبدو أنها صارت كذلك بالفعل، دعك من المشاعر والأفكار، وهي موجودة لا شك، لكن لا تنصرف بالسياسة، وخاصة في ظروف الحرب، فضلاً عن أن شريحة كبيرة من العرب هي في حالة “تخلٍّ” و”اغتراب” و”انفصال”، بوعي أو لا وعي، عن معنى الصراع مع “إسرائيل”. وشريحة أخرى، قد تكون كبيرة أيضاً، تقف -عن سبق إصرار- إلى جانب المعتدي.
نتائج عَرَضيَّة
تنظر “إسرائيل” إلى الموت الذي يقع على العرب بوصفه “نتائج عرضية” لحالة الصراع العميق والممتد بلا توقف منذ إنشاء “إسرائيل” في الإقليم. الموت والتدمير هو مجرد “تداع” وربما “ضرر هامشي” أو “عرضي”، كما تتكرر الإشارة، لسياسات “تأكيد” و”تثبيت” و”تأمين” لـ “إسرائيل”، وفرض منظورها لنفسها وللإقليم والعالم. لكن المعنى العميق له، أي الموت، هو أنه “أمر لازم”، هو “مقتضى” ما يريده أو يحاوله الإسرائيليون. وهكذا، فإن الموت أو القتل الذي يقع على العرب هو حدث غريزي وحشي مقصود بالتمام، وهو استراتيجية وظاهرة حيوية ووجودية بالنسبة للقاتل.
تزييف الواقع
إن وجود الفلسطينيين والعرب في الإقليم ليس عَرَضَياً، بل هو وجود ضارب في أعماق التاريخ والجغرافيا. والعربي لا يقاتل الإسرائيلي لأنه يهودي بل لأنه مُستعمِر. لكن الإسرائيلي يقتل العربي لأنه موجود في أرض هي للعرب، لكن أراد الإسرائيلي أن تكون خالية. والواقع أن الإسرائيلي يتطلع ليجعل من أسطورة أو أكذوبة “شعب بلا أرض إلى أرض بلا شعب” أمراً واقعاً. ويتحدث مؤرخون إسرائيليون عن ذلك، بوصفه محدداً وأفقاً في آن للحركة الصهيونية. تنفذه بـ”القوة الصلبة “أو “القاهرة” أي القتل والتهجير. و”قوة التدبير”، أي بالسياسات والتحالفات. و”القوة الرمزية” أو “الخادعة”، أي الثقافة والإعلام والمعلومات ونظم القيم. انظر مثلاً، “إيلان بابيه” و”شلومو ساند” و”آفي شلايم” وغيرهم.
موتان لا يستويان
هذا الموت والقتل الذي يقع على العرب، لا يقارن بالموت الذي يقع على “الإسرائيليين” من حيث الحجم والكثافة والنمط، ومن حيث الأساس الأخلاقي والقيمي، لكن الهيمنة الإسرائيلية والغربية على فضاء المعنى والقوة في العالم، وامتداداتها في فضاء المعنى والقوة في الإقليم، يزيف الوقائع والحقائق، ويخلق حالة من “الشواش” و”الاحتلال” في المعنى، و”السيولة” في الأفكار والمعلومات والقيم، تضع المعتدى عليه مكان المعتدي!
لكن الموت يجر موتاً والدم يجر دماً. والكل يَعدّ الموتَ أو القتلَ حقاً بل واجباً وجودياً. موتان لا يستويان: موت المعتدي وموت المعتدى عليه، صاحب الحق ومغتصب الحق. لكنهما متقابلان من حيث وعي ولا وعي الأطراف بأنه أمر لازم -كل من منظوره- من أجل إثبات وجوده في مواجهة الآخر.
في الختام:
هذا الموت ليس عرضياً، ولا طارئاً، بل هو موت فائق، عابر للجغرافيات والفضاءات، مادياً ورمزياً، يتجاوز كل القواعد والحدود. وهو “متن” و”أصل” في تاريخ الإقليم وحاضره، وقوة تخليق للخرائط والهويات… والحياة في الإقليم.
الدكتور عقيل سعيد محفوض