خاص|| أثر برس ما تفعله “إسرائيل” في الإقليم اليوم، ربما يُعادل من حيث الوقائع والتداعيات والرهانات ما حدث في بدايات القرن العشرين، من “ابتلاع” غربي كولونيالي له، و”إعادة تقيؤه” خرائط ومناطق سيطرة بألوان وأبعاد وتشكلات مختلفة، ولاحقاً تشكيله دولاً أو أشباه دول في إطار “نظام غربي” للمنطقة والعالم. والواقع أن “إسرائيل” تتصرف كما لو أنها حاصلة على تفويض من الإقليم والغرب (والعالم) لفعل ذلك. وتباشر سياسات ورهانات هيمنة، وتستخدم القوة المفرطة، وتقتل وتدمر بوحشية غير مسبوقة في التاريخ!
الفارق اليوم، وهذا وجه واحد من أوجه عدة، أن “إسرائيل” والغرب يعلنان أهدافهما جهاراً نهاراً، بكل بلاغية وتعبيرية ممكنة، والتي تتمثل في: تغيير الشرق الأوسط، ونقله من حالة الصراع والعنف، بالمعنى الذي تراه “إسرائيل” إلى حالة السلام والتنمية، بالمعنى الذي تراه “إسرائيل” أيضاً. الواقع أن “إسرائيل” والغرب يقولان كل شيء بوضوح، ليس لأنهما واضحان بطبيعتهما، بل لشعورهما بـ”فرط القوة”، وأن “اللحظة مناسبة”.
والعامل المهم لهما هو “القابلية” العربية والإقليمية لذلك، لكن ليس مجرد “القابلية” أو “القبول”، الصحيح هو “التلقي الحماسي” من العرب والإقليم (والعالم) لما يحدث، بكيفية غير مسبوقة في التاريخ الحديث. بالكاد تجد تحفظاً عربياً أو إسلامياً أو دولياً على ذلك، خلا استثناءات قليلة. ولنا عودة إلى النقطة الأخيرة.
“خرائط نتنياهو”
هذا ما عبّر عنه رئيس الحكومة الإسرائيلية “بنيامين نتنياهو” في مناسبات مختلفة، بقدر كبير من الثقة والتجبر والعدائية، قال إنه يباشر عملية تغيير أو إعادة تشكيل الشرق الأوسط. وكان نتنياهو في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة (تشرين الأول/أكتوبر 2024)، قد رفع خرائط قَسَّمَت دول الإقليم إلى شريحتين أو اصطفافين رئيسين: “دول النعمة” وتضم عدداً كبيراً من دول الإقليم وصولاً إلى الهند. و”دول النقمة” وتضم إيران ولبنان والعراق وسوريا، ولم تظهر في خرائطه أي إشارة إلى فلسطين أو الضفة الغربية.
“الانخراط الحماسي”
يندفع الإقليم، والحديث هو عن أكثر دوله، في خط وأفق الرهانات والتطلعات و”الخطط الإسرائيلية” والغربية، لا كـ”موضوع” لها فحسب، وإنما كـ”مشارك” مندفع ومتحمس، في ما تريده أو تحاوله، بكل هِمَّة وإصرار.
ويتحدث الصحافي الأمريكي بوب وودورد في كتاب أُصدِر مؤخراً، عن أن عدداً من الزعماء والمسؤولين العرب الذين اجتمع بهم وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكين بعيد حدث غزة (7 تشرين الأول/أكتوبر 2023) عن “تمنيات عربية” أن تقضي “إسرائيل” على حماس (وحزب الله)، وأن تخلصهم من “الإخوان المسلمين” و”أذرع إيران” في فلسطين ولبنان (والإقليم). وثمة كلام كثير عن اصطفاف أمني واستخباراتي ودعم لوجستي من أطراف عربية وإقليمية لـ”إسرائيل” في قلب الحرب على قطاع غزة ولبنان وسوريا.
إذا صح ما قاله وودورد، فإن مواقف الدول العربية والإقليم أبعد من “الاستبطان” و”التمثل” إلى “الانخراط الحماسي”، كما سبقت الإشارة، والطلب بإلحاح من “إسرائيل” والغرب أن يفعلوا ما لم يفعلوه سابقاً وهو تغيير النمط في الإقليم، حتى لو أدى ذلك إلى المزيد من القتل والتدمير في فلسطين ولبنان وصولاً إلى سوريا وبالطبع إيران، الغريب أن أحداً ممن ذكرهم وودورد في كتابه لم يهتم بمجرد تكذيب ما قاله، ثمة وقائع غير قابلة للتكذيب، ويبدو تكذيبها، فيما لو حدث، نوعاً من “التأكيد” و”الإثبات”.
ثمة وجه آخر لموضوع عدم النفي أو التكذيب، وهو أن أولئك مقتنعون بما فعلوه، وإن لم يظهروه علانية في الخطاب السياسي، فقد أظهروه في الخطاب الإعلامي، ولا بأس -من هذا المنظور- من أن يعرف الناس ذلك، وقد تغيرت المدارك والأولويات. أمام هذا العنف المفرط والتدمير والقتل، يقول السياسي لشعبه: “هل تريدون أن يحدث لكم، ما يحدث في غزة ولبنان؟”، الجواب المتوقع هو: “لا، كفى الله المؤمنين شر القتال”.
لا شك في أن المطلوب من العرب والإقليم، فلسطينياً ولبنانياً وحتى سورياً، ليس قتال “إسرائيل” ولا معاداتها، بل فقط الضغط عليها لوقف القتل والعنف المفرط والتدمير والإبادة، والامتناع عن الدعم العميق لما تفعله. وأن من غرائب الأمور أن تنقلب المدارك والأحوال، وتُخالف المنطق والتاريخ والبداهة، إذ “يستبطن” العربي المتحالف مع الغرب و”إسرائيل” ما يُراده له ومنه إسرائيلياً وغربياً، ويندفع في سياسات “تدمير ذاتي”، بما هو عربي، معتقداً أنه بذلك ينشد خلاصه مما يهدده!
“محور الشر”!
عودة إلى الأساس العميق والثقيل لما يجري: ترى “إسرائيل” والغرب، أن المقاومة هي “نقيض محض” لهما، و”محور شر” يهددهما، ويريد تحطيم الأمن والسلام في الإقليم، وأن من حق “إسرائيل” الدفاع عن نفسها ضد من يمثل مجرد وجودهم بالحياة، وفي النحو الذي هم فيه، تهديداً لها. وأن “إسرائيل” والغرب لا يدعيان فيما يقولان، لعلهما صادقان في ذلك، وهذا من الأمور النادرة التي لا يكذبان أو يخاتلان فيها، أن المقاومة هي بالفعل تهديد لهما، وهما يقاتلانها بكل السبل الممكنة.
خرائط الحديد والنار
إن العنف والتدمير والقتل ليس مجرد تجليات لتوجهات ورهانات يراد “إنزالها إلى الواقع”، بل رسم بالحديد والنار لملامح الإقليم (ومن ورائه العالم!)، وتظهير لخرائط المعنى والقوة. وتفترض أطراف في الإقليم أن الموت والقتل هو “عمل جراحي” لازم لـ “استئصال” بؤر المقاومة، سواء أكانت فواعل المقاومة بالمعنى العسكري والجهادي المقاوم، أم كانت بيئات اجتماعية وثقافية وقيمية مقاومة.
من هنا “السكوت عن الموت” الذي يقع على المدنيين، والذي تعده “إسرائيل” وحلفاؤها وشركاؤها فيه، مجرد نتائج لا يمكن تفادي وقوعها، وذلك في معرض العمل لتحقيق أهداف كبيرة.
نقاط المعنى والقوة
لا يذهب الأمر بـ”إسرائيل” والغرب إلى “إعادة تشكيل” الإقليم ككل، إنما الإمساك بـ”بؤر المعنى والقوة” و”نقاط التحريك والتثوير والمقاومة” فيه، ما تبقى منها، والعمل لـ “تفكيكها”، حتى “يمتثل” الإقليم ككل لما تريده، بما في ذلك تغيير روحه وثقافته وبالطبع سياساته واصطفافاته وأجنداته. وثمة كلام كثير عن تحالف إقليمي أو “ناتو عربي” أو “ناتو إسلامي” يمثل الكيان الإسرائيلي “قوة التنظيم والتحكم” أو “قطب الرحى” فيه.
كائن مسخ!
تريد “إسرائيل” بناء على أهدافها ورهاناتها، والتفويضات الممنوحة لها إقليمياً وغربياً، أن “تبتلع” الإقليم، لـ”تتقيؤه” على شكل “كائن مسخ” موافق لها وللغرب. ولا بد أن يكون الإقليم، في حال حدث ذلك، مفارقاً لهويته ومعناه وحتى متطلبات وجوده المكافئ أو الحر في العالم، وهذا هو سر الاندفاعة المهولة للعنف والقتل والتدمير، والواقع أن “إسرائيل” تنفذ عمليات إبادة غير مسبوقة في تاريخ الإقليم والعالم. وهو نفسه السر الذي يفسر “التواطؤ” الإقليمي والعالمي معها في ذلك.
في الختام
أختم بعبارة وردت في نهاية كتاب لي بعنوان “القنفذ والثعلب”، ولعلها تكثف المعنى الكامن في جانب مما يجري، تقول:
“على الرغم من الفروق الكبيرة في الإمكانات المادية والتكنولوجية وغيرها (بين المقاومات وأعدائها)، فإن الصراع في المنطقة محكوم -في جوانب مهمة منه- بعوامل أخرى لا تقل أهمية، وتتمثل بنظام القيم والمدارك حول الحق والهوية والثقة بالمستقبل، على المدى البعيد، والأمل الغامض والملغز بتغيير موازين واتجاهات المعنى والقوة في الإقليم والعالم، وإن إصرار الشعوب على فكرة الحق بالوجود والتحرر والمكانة والدور- يمثل عاملاً متكافئاً لتفوق الخصم”.
الدكتور عقيل سعيد محفوض