خاص|| أثر برس قد يكون تأجيل الانتخابات البلدية في مناطق سيطرة “الإدارة الذاتية” التي كانت مقررة في 11 حزيران/يونيو 2024 إلى آب/أغسطس 2024، حدثاً محرجاً مؤرقاً، بل موجعاً لـ “الإدارة”، ويثير لديها هواجس متزايدة حول المستقبل. قد تكون مبررات التأجيل من قبيل الحاجة لإتاحة مزيد من الوقت أمام المرشحين لـ”الدعاية الانتخابية” مفهومة، لكن القصة ليست هنا. الجميع يعرف قرار التأجيل اتُخذ بتأثير ضغوط أمريكية أثارت عند “الإدارة الذاتية” مدارك تهديد أمنية وعسكرية غير مسبوقة.
قال نائب المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الأمريكية “فيدانت باتيل” في بيان: “إن الظروف في الوقت الحاضر غير موائمة لتلك الانتخابات، وأن واشنطن حثّت “الجهات الفاعلة في شمال شرقي سوريا بما في ذلك الإدارة الذاتية على عدم المضي قدماً في الانتخابات في الوقت الحالي”. ويُنظر لبيان “فيدانت باتيل” بوصفه إعلانا فعلياً لتأجيل الانتخابات، أو على الأقل قوة الضغط الرئيسة التي أدت إلى التأجيل. رسالة البيان: “عليكم تأجيل الانتخابات، وإلا فإن عليكم تحمل التبعات!”.
لكن التبريرات التي يسوقها مسؤولون في “الإدارة” و”قسد”، وخصوصاً حزب الاتحاد الديمقراطي تسكت عن “أصل الحدث” أي أصل التأجيل. يقول صالح مسلم الرئيس المشترك لحزب الاتحاد الديمقراطي، والحزب المذكور هو عِماد “الإدارة الذاتية”، وقواته المعروف بـ”وحدات حماية الشعب” هي عِماد قوات “قسد”: “إن المفوضية العليا للانتخابات ذكرت الأسباب كلها التي استدعت التأجيل”، نافياً وجود “أسباب أخرى”، لكنه أشار في الوقت نفسه إلى أنّ مفوضية الانتخابات “ربما أخذت الظروف السياسية بعين الاعتبار”.
الواقع أن تلك “الظروف السياسية” التي لم يحددها صراحة، لها “كل الاعتبار” تقريباً، ويتعلق الأمر، كما هو معروف، بالضغوط الأمريكية، ليس في قرار تأجيل الانتخابات فحسب، وإنما في كلية المشهد في منطقة الجزيرة السورية، وفي ظاهرة “الإدارة الذاتية” أيضاً.
يمكن تكثيف الموقف في النحو الآتي: إذا أمكن لأنقرة أن تفرض على واشنطن و”الإدارة” التأجيل، فقد يتكرر الموقف، وقد تذهب الأمور أبعد من ذلك: “احتواء” لمشروع الإدارة أو “تكييف” له وربما “تفكيكه”، في أفق العلاقة بين واشنطن وأنقرة، وليس في أفق المصلحة الكردية، وبالطبع ليس في إطار “حل” أو “تسوية” للأزمة السورية. هذا هو الأصل في المشهد.
الموقف الأمريكي من الانتخابات هو في جانب منه استجابة لـ”ضغوط تركية”، كما سبقت الإشارة. وحدث ذلك في لحظة حرجة، أمريكاً وإسرائيلياً، ارتباطاً بالموقف في غزة. ولولا حدث غزة لكان من الصعب أن تدفع أمريكا بقرار تأجيل الانتخابات في مناطق “الإدارة الذاتية”، على ما في ذلك من حرج لواشنطن أمام حلفائها.
وإذا ما تم التوصل إلى “حل” أو “تسوية” أو مجرد وقف إطلاق النار في غزة قبل آب/أغسطس القادم، فقد تتغير الأمور بين واشنطن وأنقرة بشأن “الإدارة الذاتية” لتصبح واشنطن أكثر تحفظاً حيال مطالب أنقرة. ولو أنه من المرجح أن تواصل واشنطن مراعاة مخاوف ومصالح أنقرة بشأن “الإدارة”، مكافأة لها على موقفها تجاه حدث غزة، وتمسكاً بتحالفها التاريخي معها.
هل نتحدث عن “مكافأة”؟
تحاول واشنطن مكافأة أنقرة على موقف مزدوج، الأول هو مساعدات الأخيرة لـ “إسرائيل” في حرب غزة، وخصوصاً تدفق إمدادات السلع المختلفة والتجارة والنفط وغيرها، بما في ذلك مواد ومعدات يستخدمها الجيش الإسرائيلي في الحرب ضد غزة. وجزء من تلك التدفقات يعوض عن نقص الإمدادات إلى “إسرائيل” بسبب أزمة الملاحة في باب المندب. والثاني هو أن أنقرة لم تشاغب على الموقف في غزة. وتعد تصريحات أردوغان حيال “إسرائيل” مخففة جداً، وتكاد تكون غائبة وقليلة التأثير في فضاء الحدث. بل إن واشنطن تنظر لأنقرة بوصفها جزء من “دينامية ضبط” للتطورات بحكم علاقتها القوية والعميقة مع قادة من حركة “حماس”.
لعل المكافأة الأهم من منظور أنقرة، أن تأجيل الانتخابات وجه ضربة لمشروع “الإدارة الذاتية” في نقطة تأسيسية له، والانتخابات ليست مجرد حدث إداري أو محلي أو بلدي، بل هو حدث كياني بكل معنى الكلمة، وهو من مؤشرات إقامة “سلطات بديلة” و”سيادة بديلة”، إن أمكن التعبير. والتأجيل هو إقرار بأولوية أنقرة لواشنطن، وأن أنقرة قادرة على احتواء مشروع “الإدارة الكردية” في شمال شرقي سوريا.
إذ تدرك أنقرة حرج اللحظة لواشنطن، فإنها تمارس ضغوطاً كبيرة بشأن “الإدارة الذاتية”، وتريد انتزاع تنازلات من واشنطن بهذا الخصوص. وللعلم هذه ليست أول انتخابات لـ”الإدارة الذاتية”، لكنها أول انتخابات تشمل كل مناطق سيطرة “الإدارة” و”قسد”، خلافاً لانتخابات العام 2015 و2017 التي كانت جزئية.
تتمثل المكافأة أيضاً، بإظهار أردوغان نفسه وحزبه في صورة المنتصر بعد هزيمته في الانتخابات البلدية في تركيا. يقدم أردوغان نفسه بوصفه بطلاً ليس في الداخل فحسب، وإنما في الخارج وخصوصاً دول الجوار أيضاً، وبالأخص طهران وبغداد وبالطبع دمشق، ويقول إنه الوحيد القادر على ممارسة ضغوط قصوى تجاه واشنطن في الموضوع الكردي، وأنه تمكن من تأجيل حدث تعده “الإدارة الذاتية” و”حزب الاتحاد الديمقراطي” و”قسد” خطوة في سلسلة “أحداث تأسيسية” في مشروع الكيانية شمال شرقي سوريا.
وسبق لـ أردوغان أن هدد في كلمة له قبيل بدء تدريبات عسكرية في إزمير: “إن أنقرة لن تسمح أبداً للمنظمة الانفصالية بإقامة دولة “إرهابية” قرب الحدود”، ملوحاً “بالتصرف مجدداً” في مواجهة محاولة “فرض أمر واقع”. بدت كلمات أردوغان قبل إعلان الإدارة تأجيل الانتخابات، كما لو أنها (كلمات أردوغان) هي التي فرضت التأجيل.
لكن واشنطن لا تريد مكافأة أنقرة لاعتبارات تخص الأخيرة، وإنما لاعتبارات تخصها هي. وسبقت الإشارة إلى أولوية حرب غزة الآن، وحاجة واشنطن إلى “نسق” عربي وإسلامي مؤيد لواشنطن وداعم لـ “إسرائيل” في حرب غزة. ورأت واشنطن أن تأجيل الانتخابات مراعاة لأنقرة أمر مهم في سياق استراتيجيتها الداعمة لإسرائيل، بانتظار ما يمكن أن يحدث لحين موعد الانتخابات البلدية الجديد آب/أغسطس 2024.
عقيل سعيد محفوض