خاص || أثر برس “الضربة التي لا تكسرنا تقوّينا”، بهذه الكلمات بدأ “عمر” حامل إرث عائلة “الروّاس” العريقة في مهنة إصلاح السجاد الصوفي المعروفة بـ “رتي السجاد”، حديثه لـ “أثر برس”، ملخصاً بها مسيرة عمله المضنية التي قضاها خلال السنوات الأخيرة في ظل ظروف الحرب القاسية التي عاشتها مدينة حلب.
عمر الرواس الذي يبلغ من العمر /44/ عاماً كان بدأ مسيرة عمله في مهنة “رتي السجاد” منذ الثامنة من عمره، حيث تعلم المهنة آنذاك من والده وجدّه قبل أن تصبح جزءاً لا يتجزّأ منه رغم صعوبتها والجهد والوقت الكبيرين اللذين تحتاجهما، ليحافظ عليها منذ ذلك الحين وحتى اليوم معتبراً أنه حفاظه على هذه المهنة هو من أهم الواجبات التي تقع على كاهله للحافظ على تاريخ عائلته والموروث الشعبي العريق المتعلق بها.
فترة ذهبية لعمر وعائلته قبل بدء الحرب في حلب
لدى حديثه عن عمله قبل بدء الحرب في مدينة حلب، لم يستطع عمر أن يحبس دموعه من الانهمار، في ظل المشاهد الجميلة التي أعادها الحديث عن تلك الفترة الجميلة إلى ذاكرته.
يقول عمر لـ أثر برس”: كنا نمتلك أنا وأبي وأخي ورشةً للرتي في سوق (الصابون) ومحلاً في سوق (الحراج)، وهو أحد أسواق (المْدِينة) المتخصص بالسجاد والبسط، وكنا لا نتوقف عن العمل منذ الصباح وحتى المساء في ظل الإقبال الكبير والعدد الهائل من الزبائن الذين كانوا يقصدون ورشتنا لإصلاح سجاداتهم وتنظيفها من (العتّ)، حتى أننا كنا نستقبل زبائن ليس فقط من حلب وباقي المحافظات السورية، وإنما كان يأتينا زبائن من خارج سورية سواء من إيران أو من فرنسا وإيطاليا ومختلف الدول الأوروبية”.
خلال فترة الحرب وأول سجادة أصلحها بعد عودته إلى العمل
بعد دخول المسلحين إلى المدينة القديمة في حلب وسيطرتهم على أسواق “المدينة”، وجد عمر الرواس نفسه بعيداً عن محله وورشته ومهنته التي يحب، فتوقف عن العمل لما يقارب العام وخاصة بعد أن فقد معظم بضائعه وسجاداته التي احترقت داخل المحل، قبل أن ينهض مجدداً ويعود إلى العمل بعزيمة أكبر.
وعن تفاصيل تلك المرحلة يقول عمر: “بعد توقفي عن العمل لحوالي عام، أردت أن أنهض مجدداً فعدت للتواصل مع معارفي وأصدقائي، ورحت أبحث عن العمل ضمن المهنة التي أحب بأي ثمن، وبعد جهد جهيد تمكنت من الحصول على سجادة بحاجة للإصلاح من أحد أصدقائي، ورغم أن أجرة إصلاحها كانت تبلغ حينها /10/ آلاف ليرة سورية، إلا أنني أصلحتها مقابل /1500/ ليرة فقط لكي أشعر أنني عدت للعمل وتغلبت على الإحباط والأذى النفسي الذي لحق بي جراء فقدان محلي وورشتي، واستمريت على هذا المنوال من حيث العمل بأرخص الأسعار لما يقارب عامين كنت أعمل فيهما على إصلاح السجاد فوق رصيف أحد شوارع حي الفيض، وعانيت خلالهما على الصعيد المادي بشكل كبير”.
وأضاف: “بعد عامين من العمل على الرصيف اكتسبت خلالهما العديد من الزبائن إلى جانب السمعة الطيبة التي حققتها، اشتريت ماكينة لحياكة السجاد ووضعتها عند أحد الخياطين في حي الفيض، وحِكت عليها آنذاك أول سجادة خارج ورشتي وبعتها آنذاك بـ /4500/ ليرة سورية بربح لم يتجاوز الـ /500/ ليرة، إلا أن فرحي بهذه الخطوة كان كبيراً وخاصة بعد أن استشعرت قرب عودتي الحقيقية إلى عملي كما أن تلك السجادة أعادت إلى ذاكرتي أول سجادة بعتها في عندما كنت صغيراً”.
“عملت على هذا النحو من حيث حياكة السجاد والمتاجرة بالسجادات (العجمية) المستعملة لعدة سنوات، وتمكنت رغم الحرب في حلب من الوقوف على قدمي من جديد، وأثمر جهدي وتعبي عن استئجاري لورشتي الحالية في حي (الميريديان)، وهي الورشة التي كان افتتاحها بمثابة عودتي الحقيقية إلى من العمل في مهنة أبي وجدّي” وفق قول عمر.
في فترة ما بعد الحرب.. تأثير إيجابي كبير للمعارض التراثية
مع نهاية عام /2016/ التي شهدت خروج الفصائل المسلحة من أحياء حلب الشرقية ومدينتها القديمة، لم يدخل اليأس إلى قلب عمر رغم عدم تمكنه من العودة إلى محله القديم في “المدينة” نتيجة الأضرار الكبيرة التي تعرضت لها أسواق حلب القديمة، فتابع عمله الذي أسسه خلال سنوات الحرب، محققاً نجاحات كبيرة أكسبته شهرة واسعة تجاوزت حدودها مدينة حلب لتمتد إلى باقي المحافظات السورية.
ويشير عمر إلى أن المعارض والفعاليات التراثية التي أقيمت في مدينة حلب بعد انتهاء الحرب، لعبت دوراً إيجابياً كبيراً في مسيرة عمله، حيث كان حريصاً على الاشتراك في جميع تلك الفعاليات فمن معرض حلب الدولي بنسختيه الأولى والثانية ومعرض دمشق الدولي وصولاً إلى مهرجانات خان الوزير بحلب، كان عمر حاضراً دائماً بنوله الخشبي التراثي وأدواته البسيطة، الأمر الذي أعاد مهنة “رتي السجاد” إلى مكانتها وخاصة: “أن العديد من الناس لا يعرفون بأن مهنتنا ما تزال موجودة، إلا أن الإقبال الكبير الذي شهدته المعارض التي شاركت بها ورؤيتهم لي وأنا أعمل كان له دور كبير في إعلام الناس بأن مهنتنا باقية حتى اليوم، وهذا الأمر أكسبني العديد من الزبائن ووسع من نطاق عملي من جديد ليتجاوز حدود سورية ويمتد إلى عدد من الدول العربية والأجنبية”.
فن تحويل السجاد التالف للوحات فنية
ويعمل عمر الرواس إلى جانب إصلاح ورتي السجاد، على مساعدة الأهالي في الحفاظ على مقتنياتهم من السجاد ذو القيمة المعنوية في قلوبهم رغم تعرضه للتلف أو التمزيق أو الاحتراق، عبر الاستفادة من الأجزاء غير المتضررة وقصها بطريقة فنية لتحويلها إلى لوحات بعد إجراء الإصلاحات اللازمة لأطرافها، موضحاً أن هذه الفكرة جاءته في ظل قدوم العديد من الزبائن الذين يمتلكون سجادات ورثوها عن آبائهم وأجدادهم إلا أنها تضررت بشكل كبير سواء لظروف الحرب من حيث القذائف، أو نتيجة ظروف أخرى.
وتحدث الرواس عن قصة سجادة يعمل عليها في الوقت الحالي بالقول: “وصلتني قبل أيام من أحد الزبائن سجادة عجمية يبلغ عمرها أكثر من /90/ سنة، كان ورثها الزبون عن جدته وهي الذكرى الوحيدة الباقية منها فعلياً، إلا أنها تمزقت وتضررت بشكل كبير كونه اضطر لمغادرة منزله نتيجة الحرب وتركها مرمية داخل المنزل طيلة السنوات الماضية، وكان مصراً أن يحافظ على ذكراها رغم الضرر، وبعد معاينة طويلة تمكنت من اقتصاص الجزء الذي يضم الرسم الرئيسي في وسطها وجعلت منها سجادة صغيرة كي يعلقها الزبون على حائط منزله ويحافظ على ذكراها الجميلة”.
توريث المهنة
لعل أول ما يلفت انتباه الداخل إلى حديقة المنزل التي اتخذها عمر الرواس مقراً لعمله في حي “الميريديان”، هو مشهد الشابين الصغيرين الجالسين على النول الخشبي وبين السجادات التي تحتاج للإصلاح، فإلى جانب عمله المعتاد في “رتي” وإصلاح السجاد وحياكته، ينصب اهتمام عمر الرواس على تعليم وتوريث المهنة إلى ابنه وابن أخيه، اللذان يعتبرهما عمر حاملين لإرث العائلة العريق.
ويعجز براء عمر الرواس عن وصف شعوره أثناء العمل في مهنة أبيه وأجداده، مبيناً أنه عندما يعمل في حياكة السجاد على النول الخشبي يتملكه شعور غريب من الدفء والراحة النفسية، حيث كان بدأ بتعلم المهنة مذ كان عمره /12/ عاماً أي ما قبل حوالي /5/ أعوام، وأضاف براء لـ “أثر برس”: “أحب هذه المهنة لدرجة العشق، لأنها تعلمني الصبر والهدوء، ولذلك أحرص يومياً على النزول إلى العمل بالتوازي مع حفاظي على مسيرتي التعليمية”، مؤكداً أن عمله في حياكة وإصلاح السجاد يساعده حتى في دراسته كونه وإلى جانب تعليمه الصبر، يفتح الذهن وينقيه.
ورغم صغر سنه /13/ عاماً، تعلّم محمد فيصل الرواس مختلف فنون العمل في السجاد من عمه عمر، مؤكداً أنه أصبح الآن يتقن تنظيف السجاد و”التزريع” و”سد الرؤوس”، واتفق مع ابن عمه براء على أن العمل في السجاد علّمه العديد من الجوانب الإيجابية التي يتقدمها الصبر والهدوء.
من جانبه يشير عمر الرواس إلى أنه لم يدّخر جهداً مع أخيه لتعليم أبنيهما أصول المهنة وأسرارها، كي يكونا جديرين بحمل الأمانة والحفاظ على السمعة العطرة لعائلتهما وتوريثها في المستقبل لأبنائهم وأحفادهم، فيما يؤكد عمر أن تعليم مهنة “رتي السجاد” وحياكته، ليست حكراً على عائلة الرواس فقط، مشيراً إلى أن على استعدادٍ لتعليم كل طفل وشاب يعشق هذا المهنة ويرغب بتعلمها.
تجد الإشارة إلى أن مهنة “رتي السجاد” كما تعرف بالمصطلح الحلبي الشائع، تعتبر من أقدم المهن التراثية في مدينة حلب، وأكثرها ندرةً، في ظل ما تتطلبه هذه المهنة من إتقان وفنٍ وجهد وصبر، فيما يقتصر وجود المشتغلين بها على عدد محدود من الأشخاص في مدينتي حلب ودمشق فقط دوناً عن باقي المحافظات السورية، إلا أنه وبالنسبة لحلب المدينة وفي ظل ظروف الحرب التي عاشتها والتي أدت إلى دمار وتخريب محال جميع العاملين في “رتي السجاد”، بدأت هذه المهنة بالاندثار نسبياً وخاصة بعد أن ابتعد العاملون بها عن عملهم طيلة سنوات الحرب باستثناء /3/ أو /4/ أشخاص كان عمر الرواس في مقدمتهم، ليسجل بفضل صبره وقوة تحمله وعشقه لمهنته من كتابة قصة نجاح تُظهر عظمة وصبر أبناء حلب في مواجهة كل الظروف والتحديات.
زاهر طحان – حلب