خاص || أثر برس في محله الصغير وسط دمشق القديمة، يترقب أبو أحمد طوال اليوم دخول زبون إلى محله المتخصص ببيع الأنتيكا والتحف والشرقيات في منطقة مدحت باشا، والذي افتقد زبائنه الأجانب لنحو 10 أعوام، بعد أن توقف السياح من الدول الأوروبية والخليجية عن زيارة دمشق القديمة وأسواقها، بسبب الحرب.
“لم تُبَع قطعة منذ الصباح”، حوالي الساعة الخامسة عصراً يقول العم أبو أحمد وهو جالس في محله يتصفح هاتفه الجوال، ويضيف: “لا توجد حركة بيع وشراء.. بتنا نصنع قطعاً بنوعية أقل جودة لتباع بأسعار أرخص للزبون المحلي الذي لن يدفع الثمن المرتفع للقطعة الممتازة”.
وعن أسعار القطع يجيب أبو أحمد أن هناك قطعة كصندوق خشبي على سبيل المثال، تباع بـ 6 آلاف ليرة سورية أي ما يعادل 3 دولارات، والأكبر حجماً بـ 8 آلاف ليرة، وهناك قطع صغيرة أرخص نسبياً من نظرائها.
مقابل أبو أحمد، يجلس أبو علاء، صاحب محل لبيع التحف النحاسية، والذي استطاع أن يجد ضالته في السوق، وينجح بإنعاش حركة البيع والشراء في محله، فيقول لـ “أثر” متحدثاً عن بعض المعروضات: “يوجد نوعين من النحاس.. نوع غالٍ ونوع سعره مقبول.. لنلبي كل الأذواق”.
برسمات وعبارات اختار فيها التوجه لروسيا والشعب الروسي، استطاع أبو علاء أن يحافظ على محله ومهنته، ويشرح قائلاً: “التصدير هو أملنا اليوم.. اخترنا روسيا لتكون وجهتنا فقمنا بتعديلٍ بسيط على القطعة، ووضعنا صوراً تعبر عن صداقة الشعبين السوري والروسي، وهذه القطع غالباً ما نعدها للتصدير”.
وتحفظ أبو علاء عن ذكر أسعار التحف النحاسية، إلا أنه أشار بيده للوحة نحاس “معتّقة”، مبيناً أن سعرها للزبون الأجنبي 35 دولاراً، فيما أن الزبون المحلي يختار قطعاً أقل سعراً “في حال قرر الشراء أصلاً”.
بينما يتحدث “أبو طلال” صاحب محل نحاسيات آخر لـ “أثر” عن أصالة الحرفة التي لم يعد يلقي أحدٌ لها بالاً، فيقول: “كان يسألني الزبون سابقاً عن قصة هذا الخنجر مثلاً وميزاته ومن ماذا صنع وماهي مدلولاته وكيف يعتني به حتى لا يصدأ؟.. لكن حتى هذه الأحاديث باتت قليلة”.
الحال نفسه ينسحب على تحف “الموازييك” الخشبي الدمشقي، حركة البيع والشراء دخلت مرحلة الاحتضار لحين أن تجد متنفساً لها من باب التصدير، أو وجود زبون من الطبقة المتوسطة كحد أدنى، قادر على دفع ثمن القطعة رغبةً منه بإعطاء طابع شرقي “عتيق” لمكتبه أو منزله.
وتعد صناعة “الموازييك” الخشبي من المهن اليدوية الشرقية التي لطالما اشتهرت بها سوريا، وهي حرفة توارثها الأبناء عن أجدادهم وأدخلوا عليها بعض التطوير والتقنيات والتحديثات الفنية الرائعة.
سوق “الأنتيكا” أيضاً لا يبدو بحال أفضل، لكونه يعتمد في الأصل على السياح الأجانب، الذين دائماً ما كانوا يشترون قطع “الأنتيكا” بعد دراسة وبحث، فهم يرون ساعة قديمة أو سيفاً عليه نقوش معينة أو ميزان قديم فيصورون القطعة، ويأخذون رقمها ويبحثون في الإنترنت عن تاريخها وقيمتها التاريخية.
أبو كمال، أحد تجار الشرقيات و”الأنتيكا” في دمشق القديمة، قال لـ “أثر”: “قبل الحرب كانت تجارة الأنتيكا جيدة ومربحة لكثرة هواة جمعها من السوريين والأجانب الذين كانوا يبحثون عن أدوات المعيشة التي استخدمها الأهالي قديماً وتركت أثرها في يومياتهم، مثل طاسة الرعبة، جرن الكبة، الفوانيس، القبقاب وغيرها، لكننا في الحرب فقدنا السياح ولم يبق لنا إلا الهواة من أبناء الشام وهم قليلون جداً”.
تلك التحف وغيرها لطالما لفتت انتباه الزائرين والسياح، العرب منهم والأجانب، كون صناعتها ولدت ونشأت في سوريا، كما خصص لها سوق في دمشق القديمة، حيث تكثر المحلات التي تبيع التحف الأثرية في باب شرقي وباب توما وشارع الأمين، إلا أن الأزمات الاقتصادية التي عصفت بالبلاد والوضع المعيشي المتردي، كانت لها آثارها السلبية على هذه المهن وتوابعها، فلم تعد التحف والشرقيات تستهوي السوريين لاقتنائها، بعد أن بلغت أسعارها حدوداً مرتفعة بالتوازي مع غلاء أسعار المعيشة.
طقم جلوس، خزانة ألبسة، طاولة زهر، آلة عود، كرسي وشطرنج، وغير ذلك من الأصناف والأشكال المتنوعة من التحف الشرقية الجاذبة للسياح العرب والأجانب ممن يقصدون أسواق التحف والشرقيات، تجدها مجتمعة في منطقة “القشلة”، فما من سائح زار هذه السوق إلا واقتنى لنفسه أو لأقاربه وأصدقائه، قطعة أو تحفة من هذه الشرقيات.
وإلى اليوم، ما تزال قطع نادرة كثيرة من التحف الشرقية، موجودة في المتاحف والقصور الدمشقية القديمة وبعض البيوت في دمشق، حيث لا يكاد يخلو البيت الدمشقي من أثاثِ قديم أو قطعة فنية شبه “متحفية” تنتمي لأسرة عريقة أو شخصية تاريخية شهيرة.
غنوة المنجد – دمشق