خاص || أثر برس
يقف “أبو محمد” متكئاً على جراره الزراعي المعطل، وهو يفكر في كيفية الحصول على قطع الغيار اللازمة لعودة مصدر رزقه للعمل، فهو بين نارين، فأسعار قطع التبديل المهربة من تركيا والعراق تقاس على “الدولار” في “الحسكة”، ناهيك عن حتمية تعطل جراره مرة ثانية بعد إصلاحه بكونه كغيره من فلاحي الحسكة يعتمدون على المشتقات النفطية المكررة بطريقة بدائية من قبل تجار يرتبطون بـ “قوات سورية الديمقراطية”، وهي مواد غير صالحة للاستعمال بطريقة صحية.
يقول الرجل الذي تجاوز العقد السادس من عمره ببضع سنوات، أن سكان المناطق الشرقية يعتمدون بشكل أساسي على المشتقات النفطية التي تكرر بشكل بدائي عبر ما يعرف باسم الحراقات، وذلك لسببين، الأول الفارق الشاسع بين أسعارها وأسعار المشتقات النفطية المكررة من قبل القطاع الحكومي، والثاني يتعلق بصعوبة وصول المشتقات النفطية إلى أسواق المحافظات الشرقية ما يؤدي إلى ارتفاع أسعارها بشكل كبير في السوق السوداء، فعلى سبيل المثال لا يزيد سعر الليتر الواحد من المازوت المكرر بطريقة بدائية عن 70 ليرة في أحسن الأحوال، بينما سعر الليتر العادي من المازوت هو 200 ليرة سورية.
بدأت حكاية “الحراقات” في زمن وجود تنظيم “داعش” في المحافظات الشرقية، حيث كان التنظيم يبيع النفط الخام لمجوعة من التجار الذين افتتحوا “الحراقات” بقصد الإتجار بالمشتقات النفطية في السوق المحلية بالاستفادة من الظروف الأمنية التي منعت وصول هذه المشتقات من مصفاتي “حمص – بانياس”، وبرغم المخاطر من استخدام هذه المشتقات التي تؤدي إلى انفجار المدافئ المنزلية والتسبب بحالات وفاة بلغت خلال العام الماضي بحسب مصادر طبية خاصة لـ “”، نحو 50 غالبيتهم من النساء والأطفال، علما إن هذه الحالات سجلت في مناطق متفرقة من محافظة الحسكة لوحدها.
في الموت.. “عصة قبر”
ازدياد عدد الحراقات البدائية أدى إلى انتشار أمراض صدرية كثيرة في المناطق الشرقية، منها التهابات الرئة المتنوعة والتأثير السلبي الكبير على مرضى الربو المقيمين بالقرى القريبة من أي حراق، إلا أن أخطر الأمراض التي زاد انتشارها في المنطقة الشرقية هو سرطان الرئة.
لا يوجد إحصائية دقيقة لعدد مرضى السرطان الجدد في المنطقة الشرقية، خلال فترة الحرب الدائرة في سوريا، إلا أن ما يقارب 100 حالة حديثة سجلت خلال العام الحالي، تقوم بمراجعة مشافي دمشق بشكل دوري لتلقي العلاج اللازم الذي تؤمن الحكومة السورية جانباً كبيراً منه بالمجان، وهنا لا يعاني المريض من تأمين تكلفة بقية العلاج والجرعات الكيميائية وحسب، بل يتحمل مصاريف السفر التي تصل إلى ما يقارب 100 ألف ليرة سورية للشخص الواحد عبر النقل الجوي، فيما يعتبر النقل البرّي مجازفة بالنسبة للمرضى لطول الفترة الزمنية التي تستغرقها الرحلة بسبب تبدل الطريق المستخدمة للرحلات البرية لأكثر من مرة.
وتقول “حياة” التي كانت تدرس الأدب العربي قبل بدء الحرب، التي تسافر باستمرار مع والدتها المصابة بـ “سرطان الرئة”، بأنها تسكن في قرية قريبة من بلدة “تل كوجر” القريبة من الحدود السورية-العراقية، بأن والدتها أصيبت بالسرطان قبل نحو سنة، وأجمع الأطباء على إن السبب هو الدخان المنبعث من الحراقات الموجودة في محيط القرية النائية التي تبعد عن مدينة القامشلي ما يقارب 125 كم إلى الشرق، وهي تحتاج إلى ساعة ونصف في الحد الأدنى للسفر من القرية إلى المدينة لمراجعة طبية عاجلة، فيما تحتاج إلى أكثر من 14 ساعة للسفر عبر الحافلات إلى دمشق، إذ لا يمكنها تحمل تكلفة الإقامة في العاصمة، كما إن السفر المتكرر بالطائرة يعتبر حالة انتحار مادي في ظل الظروف المعاشية التي تحيط بهم.
قسد على خط المنافسة
في الأطراف الشمالية لمدينة “عين عيسى” بريف الرقة الشمالي الغربي، وإلى الغرب من مدينة الرقة نفسها، يوجد مجموعة من “الحراقات الكهربائية” التي استقدمتها شخصيات من “قوات سوريا الديمقراطية” بهدف المنافسة في بيع المشتقات النفطية في السوق المحلية، وعزز وجود هذه “الحراقات” بحملة أمنية نفذتها “الآسايش” خلال شهري “أيلول و تشرين الأول” الماضيين لتفكيك الحراقات البدائية الموجودة في المنطقة بما يفتح السوق فقط أمام “تجار قسد”.
فكرة الحراقات الكهربائية بدأت أول الأمر في مناطق ريف الحسكة الشمالي، وبرغم إن سكان المنطقة يدركون أن ما تنتجه هذه الحراقات “أضمن وأسلم”، إلا أن الفارق في الأسعار هو ما يدفع “أم الياس” لشراء المشتقات النفطية المكررة بطريقة بدائية وتعرف شعبياً باسم “مازوت داعش”، فتوفير ما يقارب 60 ليرة في سعر الليتر الواحد، يعني الكثير بالنسبة لأم تعيل أسرة مؤلفة من 5 أبناء إضافة لها، في ظل غياب الأب المجند بشكل قسري في صفوف “قوات سوريا الديمقراطية” وابتعاده عن البيت لفترات طويلة.
يبلغ سعر ليتر المازوت المكرر بالحراقات الكهربائية نحو 130 ليرة سورية، وسعر ليتر البنزين حوالي 180 ليرة سورية، وهو فارق كبير قياسا على أسعار المواد الحكومية أيضاً، ولا تكمن المشكلة في تقصير حكومي بإيصال المشتقات النفطية إلى المناطق التي تشهد انتشاراً لـ “قوات سوريا الديمقراطية”، لكن الأخيرة تفرض قيوداً على المواد التي تدخل هذه المناطق بما يتناسب وممارساتها الاقتصادية في الأسواق المحلية التي تؤمن جانباً من مصادر تمويلها الذاتي.
في الهامش.. صراع الحراقات
سيطرة “قسد” على الآبار النفطية وتحكمها بـ “تجارة البترول”، دفعت التجار القدامى إلى الاستيقاظ من حالة السبات التي يعيشونها ليدخلوا في مواجهة مباشرة مع “قسد” في ريف دير الزور الشمالي تحت قيادة المدعو “هويدي الضبع” الملقب بـ “جوجو”، فسيطروا على آبار تقع إلى الشمال من قرية “خشام”، وعلى حقل العزبة النفطي الواقع في المنطقة نفسها، والسبب في هو رغبة “جوجو” ومن معه بالعودة للعمل في مجال “تكرير البترول” كما يطيب لهم تسمية العملية.
الأزمة التي تواجهها “قسد” منذ حوالي عشرة أيام، مازالت معلقة دون حلول على الرغم من أن “قسد”، أمسكت العصا من المنتصف، ففي الوقت الذي حشدت عسكرياً على تخوم الآبار دخلت في عملية تفاوض مع “جماعة جوجو”، للتفاهم على عملية توزيع مستخرجات هذه الحقول من النفط وتقاسمها، في مقابل أن يلتزم “جوجو” ومن معه بأسعار السوق وألا يقوم بالاتجار بالمشتقات النفطية داخل المناطق التي يعمل فيها “تجار قسد”، ولا يبدو أن الممكن أن تتوسع الخلافات الناتجة عن السبب نفسه لتصل لمناطق أخرى.
محمود عبد اللطيف – المنطقة الشرقية