أثر برس

تأنيث السياسة!.. الظاهرة السورية وحقوق النساء

by admin Press

خاص|| أثر برس في الحديث عن الظاهرة السورية القليل من الجهد عن الجانب الخاص بالنساء. وتبدو السياسة في سوريا مثل كثير من الأمور، كما لو أنها “شأن الرجال”، وكما لو أن تدبير الشأن العام هو أمر “خاص بهم” أو من “أحكامهم”، إذا أردنا أن نستخدم لغة الفقهاء، وهي لغة دارجة هذه الأيام، مثل: “القَوَامَة” و”الولاية” و”القضاء” و”الجهاد” الخ وهذه ظاهرة مشرقية وربما عالمية أيضاً. ويتطلب الأمر المزيد من الإقدام في التفكير تجاه واحدة من الأزمات العميقة في البلاد، في ظل تضاؤل الآمال بتوصل فواعل الحدث السوري إلى توافقات أو تسويات توقف الفاجعة التي تحل بالبلاد.

وتقع السياسة في سوريا، “في سياق معياري خاص” بالرجال، بتعبير مستعار من جوديث بتلر. وبالطبع ثمة تحديدات إضافية، إذ ليست السياسة شأن “كل الرجال”، بل الرجال من نمط معين وفق اعتبارات: حزبية وسياسية واجتماعية وعسكرية، وبالطبع دينية وطائفية. وحتى اختيار النساء المشاركات في السياسة هو أمر “محض رجالي” تقريباً، بما في ذلك كلام النساء المختارات –رجالياً- للعمل إدارة الشأن العام، إذ انهن في سياق  يعطي الرجال “قوامة” على النساء، ليس بالمعنى الديني والفقهي والاجتماعي والقيمي فحسب، وإنما بالمعنى السياسي أيضاً.

وثمة من النساء المرشحات (أو المتطلعات) للعمل في الشأن العام، من “يَسْتَبْطِنَّ” ما يريدُهُ الرجال، بالمعنى المذكور أعلاه. وبالتالي يَحْرِصْنَ على أن تَظْهَرْنَ مُنَاسِبَات للمواقع المرشحات (أو المتطلعات) لشغلها. يتعلق الأمر بالمظهر وأنماط القيم والسلوك على المستوى الشخصي، أو على الأقل في الفضاء العام.

شهدت النساء خلال عدة عقود، وخاصة منذ حدث 2011 والحروب التي تلته، أنماطاً من التمييز والإقصاء، على مستوى نظم القيم وديناميات الفعل، لدى مختلف الأطراف، وهي أنماط متشابهة. والأمر يتجاوز خطوط الاصطفاف (موالاة، معارضة) في نسختها المعروفة سابقاً وراهناً، في الداخل والخارج، إلى أنماط قيم قارَّة ومُتَجَذِّرَة في المجتمع (أو ما يعد مجتمعاً) في سوريا، مثل: الاعتقال والتعذيب والإخفاء القسري والتهجير، والقتل الخ

وما حدث في البلاد خلال عدة سنوات، وما يحدث اليوم أيضاً، هو “إعادة إنتاج” مدارك وتقديرات وسياسات تمييزية، مباشرة أو غير مباشرة، بوعي أو لا وعي، تعيد بدورها إنتاج وضعية المرأة في شبكات البناء والفعل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الخ ولا تزال سياسات إدارة الصراع تضع النساء في خطوط خلفية أو هامشية، حتى لو برزت بعض النساء في مواقع سياسية أو اقتصادية أو إدارية أو استشارية.

ان المطلوب أن تكون سوريا حصيلة تقاطعات وتوافقات تاريخية، ليس بين فواعل وتشكلات إثنية ولغوية ودينية وجهوية/مناطقية فحسب، وإنما فواعل سوسيولوجية وطبقية وجندرية، إن أمكن التعبير أيضاً. والأهم هو أن تقوم سوريا، فكرة وروحاً ودولة، على الفاعل-الفرد، وفكرة المواطنة. وهوية تقوم على التعدد الاجتماعي، بكل معاني التعدد، وفي أفق حر. فإذا كانت كذلك، فمن البديهي أن تكون هويةَ المجتمع، الرجال والنساء، وكل أنماط وتشكلات وتمثلات الفعل الاجتماعي أو الفواعل الاجتماعية.

قد لا تكون المقاربة يسيرة، إذ ان الظاهرة السورية اليوم، تعج بكل أشكال التمييز والإقصاء على أسس دينية وطائفية وأقوامية ومناطقية وطبقية، وفي قلب كل نمط من أنماط التمييز المذكورة، تكون النساء الأكثر تأثراً، بالإضافة إلى أنهن أحياناً ما يكن موضوعاً مباشراً لتمييز خاص، وبالتالي يقع عليهن ضرر مركب: بما هن نساء، وبما هن جزء التكوينات والشرائح المستهدفة بالتمييز والعنف المادي والرمزي. وتتعرض النساء للطرد من العمل والابتزاز والإذلال، والإكراه المباشر أو غير المباشر على أنماط اللباس والتفاعلات والقيم والسلوك، والتهجير المباشر وغير المباشر، وهن تحت قلق دائم وخوف من حالة الصراع أو عدم الاستقرار، وفقدان شبكات الأمان الاجتماعي والحماية الاجتماعية.

لم يتمكن السوريون من إنتاج إطار لفهم أنفسهم وفهم العالم، يتجاوز “البراديغم” أو “الإطار المعرفي” الذي أوصلهم إلى حالة الأزمة والحرب، ولا يبدو أنهم فعلوا الكثير بهذا الخصوص، بل انهم “يعيدون إنتاج” أنماط القيم نفسها، أي أنهم يعيدون إنتاج بيئة الصراع والحرب، بهمة كبيرة، مفوتين فرصة الانتقال من الحرب إلى السياسة، ومن الاستبداد إلى الحرية، والواقع أنهم يخرطون بحماسة شديدة إلى المزيد من العنف، ولكَ/كِ أن تتصور/ين حجم التداعيات التي سوف تقع على النساء، بل حجم ما سوف يقع عليهن بوصفهن نساء.

تقول جوديث بتلر: “إن أداءً متكررًا من نوع ما لمعيار أو لقاعدة اجتماعية معينة، هو من يحدد جندر الفرد، وليس جندر الفرد هو من يحدد أدائه وسلوكه اليومي. بالتالي يكون الفعل هو من يحدد الهوية، وليس الهوية هي من تحدد الفعل”. هذا يحيل –بكيفية ما- إلى مسألة مهمة أيضاً، وهي أن أنماط الفواعل (ووعيها وأفقها) التي تعمل على تدبير أزمات البلاد، هو ما يحدد المسارات القائمة والمحتملة، هل هي مسارات صراع وإعادة إنتاج له أم مسارات احتواء وحلول؟

يتطلب تصحيح هرم أو شبكة المعنى والقوة التي تحدد نمط الهوية والسياسة في البلاد المزيد من المقاربات التفكيكية، ليس التفكيك بمعنى النقض أو من أجل بمعنى الهدم وإنما بمعنى الكشف والتحليل، ومن أجل البناء أو إعادة البناء. وهذه مسألة تتطلب بدورها المزيد من التقصي والتدقيق. ومما يجب تفكيكه هو المدارك النمطية لدى الرجال والنساء معاً، حول موقعهم ودورهم في الحياة العامة، وفي تحديد وتعيين طبيعة المشكلات والأزمات، والسبل الممكنة لحل الأزمات المتفاقمة في البلاد.  وهذا هو خط المعنى المراد من كلمة “تأنيث السياسة” الواردة في العنوان.

ولا يعني “تأنيث السياسة” أن تكون “مركزية معكوسة” أو مركزية للنساء بدلاً من الرجال، إنما إيلاء الجوانب النسوية والجندرية اهتماماً أكبر نسبياً، ليس بحكم التفضيل أو التمييز الإيجابي، ولو أن هذا أمر مفهوم وقد يكون مطلوباً في مجتمعات الحرب وما بعد الحرب، بل بحكم البداهة الكامنة في قلب الاجتماع البشري، وهي أن النساء هن –إلى جانب عوامل وفواعل أخرى- قوة التكوين الرئيسة فيه. وإذا كانت السياسة، في أحد مداخلها وتعريفاتها الأكثر عمقاً هي “الحرية”، فإن معنى “تأنيث السياسة” يصبح أكثر وضوحاً، وهو جعل السياسة أكثر حرية وأوسع أفقاً حيال النساء، للنساء وبالنساء، وليس فقط للرجال وبالرجال.

في الختام،

لا تحضر المقاربات النسوية أو الجندرية في قراءة الحدث السوري، وهي ان حضرت، فإنها تبدو على هامش المشهد، إذ تشترك الفواعل كلها تقريباً، بما فيها النساء، في نوع من “التواطؤ الموضوعي” على أن تكون قضايا المرأة أقل أولوية في أجندات تدبير الصراع، لا نعني بالتدبير هنا تدبير الحرب بالحرب وإنما تدبير الحرب بالسلام.

إن المشكلات التي تعاني منها النساء في إطار الأزمة السورية، ليست مجرد أعراض لمشكلات كبرى، وليست تلقائية، كما يقدر البعض، وإنما هي في قلب أنماط القيم في الاجتماع السوري أو الظاهرة السورية، وهذه ظاهرة تاريخية قارة ومتجذرة، وليس من المتصور أن تشهد حلحلة كبيرة في وقت قريب، مثلها في ذلك مثل أزمات سوريا الكثيرة والمتراكمة، والتي يتوالد بعضها من بعض.

الدكتور عقيل سعيد محفوض

 

اقرأ أيضاً