خاص|| أثر برس شهد ريف حلب الغربي وريف إدلب الجنوبي الشرقي شمال غربي سوريا تصعيداً عسكرياً امتد لأجزاء من مدينة حلب من قبل “هيئة تحرير الشام – النصرة سابقاً”، وفصائل أنقرة المسلّحة، لتغيير خارطة السيطرة الحالية منذ نحو خمس سنوات، والخاضعة للتفاهمات الروسية- الإيرانية- التركية في أستانا عام 2017، وسوتشي عام 2019، واتفاق بوتين- أردوغان 2020.
جاء ذلك تزامناً مع تصريحات تركية سبقت التطورات الحالية، أطلقها مسؤولو أنقرة اتجاه دمشق، ووُصفت بأنها عدائية، في ظل فشل خطوات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإحراز تقدم في مسار التقارب مع الرئيس بشار الأسد، وفي هذا الشأن أكد مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف، أنّ عدم رغبة تركيا بسحب قواتها من سوريا هو السبب وراء توقف مسار التقارب بين البلدين.
وكان لافتاً قبل إجراء محادثات “أستانا” الأخيرة، وجود مصادر تحدثت ان أنقرة أجرت اجتماعاً أمنياً ضم ممثلين عن فصائلها في “الجيش الوطني” بالإضافة إلى ممثلين عن “هيئة تحرير الشام”، لأخذ تعهداً من الأخيرة بإلغاء عمليتها العسكرية في حينه، نحو نقاط انتشار الجيش السوري والتجمعات السكنية، زاعمةً أنها تريد الحفاظ على منطقة “خفض التصعيد” التي أنشأتها اتفاقية “أستانا”، وبعد انتهاء جولة محادثات “أستانا”، صرّح وزير الخارجية التركية هاكان فيدان بشكل مفاجئ إلى وسائل الإعلام، بأنه يجب العمل على استبدال هذه الآلية -يقصد أستانا- بهيكلية أخرى أفضل ومن أجل هدف أفضل أيضاً.
وفي هذا الصدد، أوضح الصحفي المتخصص في الشأن التركي سركيس قصارجيان في حديث لـ “أثر”، أنه ناتج عن الخلافات مع موسكو ويأس تركيا من إخضاع دمشق وفق الهندسة التركية، ولفت إلى أنّ مشكلة أنقرة في السياسة أنها رسمت خطاباً قائماً على أن روسيا تتحكم بكل شيء في سوريا، وانطلاقاً من ذلك، تعتقد أن موسكو لم تضغط على دمشق في مسألة مسار التقارب التركي- السوري، وهي مقاربة خاطئة لأن دمشق تعمل على موازنة الثقل في علاقاتها مع الدول، وموسكو تفهم المبدأ السوري في التفاوض، وأيضاً إنّ روسيا لن تعطي أردوغان ورقة سياسية رابحة له في الداخل التركي.
وبالعودة إلى اتّفاق أردوغان مع بوتين في آذار 2020، بشأن إنشاء ممر آمن بطول 6 كلم على الطريق الدولي M4، الذي يصل حلب باللاذقية عبر إدلب، فإن تركيا لم تفِ بالاتفاقية، ولم تقم بتأمين الطريق، على رغم وجود 12 نقطة مراقبة لها في منطقة إدلب.
ومع التصعيد العسكري لـ “هيئة تحرير الشام”، نقل موقع “ميدل إيست آي” البريطاني عن مسؤول تركي قوله، إنّ “العملية الجديدة تهدف إلى استعادة سيطرة “الفصائل” على الجزء الشرقي من إدلب حتى الحدود المتفق عليها أصلاً بين تركيا وروسيا وإيران عام 2019، بما يشير إلى أن تركيا أعطت الشرعية للفصائل المسلّحة بتسويق أنّ عملها هدفه محدود بتنفيذ الاتفاقات السياسية بالعمليات العسكرية، غير أنه مع تقدم الفصائل المسلّحة الأخير إلى معظم ريف حلب الغربي وأجزاء من مدينة حلب، فإنّ كل الاتفاقيات الضامنة التي أنشأتها روسيا وإيران مع تركيا سقطت، وتم الانتقال إلى مرحلة جديدة كليّاً، في وقتٍ تستمر فيه تركيا بالتنصل عبر تصريحات خجولة لمسؤوليها زاعمةً عدم التورط في المعارك.
“التورط التركي”
يرى الخبير الاستراتيجي والمحلل السياسي كمال جفا في حديث إلى “أثر”، أنّه “من الممكن أن يكون الهجوم بقرار تركي من أعلى مستوى في ظل إصرار الرئيس بشار الأسد على تحقيق شروط الانسحاب المسبق للقوات التركية من الشمال السوري، قبل الحديث عن أي تقارب تركي- سوري”، ويضيف: “وقد تكون تركيا تغاضت عن الهجوم لكي تتنصل من مناطق (خفض التصعيد) ومسؤولياتها”.
غير أنّ الجفا أكد أنّه “من غير الممكن أن يحصل هجوماً على هذا المستوى من دون علم أنقرة بتوقيت تنفيذه وأهدافه، وذلك لسببين”، ويشرح: إن السبب الأول يتعلّق بمشاركة فصائل ما يسمّى “القوة المشتركة” و”حركة نور الدين الزنكي” و”أحرار الشرقية” وغيرها، المنضوية في “الجيش الوطني” التابع لتركيا في العملية”، مشيراً إلى أن هذه الفصائل ترتبط بعلاقة وثيقة مع أنقرة.
وتابع الخبير والمحلل السياسي كمال جفا لـ “أثر”: إن السبب الثاني متعلّق بمتزعم “الهيئة”، المدعو “أبو محمد الجولاني”، فإنه على الرغم من أنه فتح خطوط اتصال خلال الأشهر الأخيرة مع الأمريكيين والفرنسيين والبريطانيين، وأصبح ينسّق خارج الهيمنة التركية المطلقة، لكنه لا يستطيع الخروج من العباءة التركية، فعندما حصلت خلافات بين “الجولاني” وتركيا، فإنها قطعت الكهرباء والاتصالات عن إدلب، فلا سبيل لعيش المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة السورية في شمالي سوريا من دون تركيا، إذ تحتاج “الهيئة” إلى إمدادات الطاقة والوقود وتحويل الأموال ودخول البضائع ومستلزمات الإنتاج العسكري.
وبشأن مدى العملية العسكرية التي تشنها الفصائل المسلّحة، لفت الجفا، إلى أنه لا يمكن تحديد ذلك لأنه مرتبط بعوامل عدة لم تتضح بعد، مشيراً إلى أن الهيئة أرسلت مسلّحيها إلى المناطق التي تقدم إليها مسلحو فصائل أنقرة حتى لا تنكشف “الهيئة” أمامها بسبب الخلافات بينهم.
ويرى الصحفي المتخصص في الشأن التركي سركيس قصارجيان، أنّ أي تصعيد في الشمال تستفيد تركيا منه بأنها تعود إلى منطقتها كضامن ومتحكم بالطرف الآخر، إذ تُجبر روسيا على العودة والتنسيق معها، وتشكّل ضغطاً سياسياً على دمشق.
من جهته، يوضح الصحفي المتخصص في الشأن التركي سومر سلطان لـ “أثر”، أنّ لعبة التصعيد التي تقوم بها الفصائل التابعة مباشرةً، أو بطريقة غير مباشرة، لأنقرة، تساهم في تحضير الرأي العام التركي لتشكيل وهمٍ بضرورة تدخل الجيش التركي وتنفيذ توسّع جديد في رقعة السيطرة.
وتابع: لنتذكر أن وزير الخارجية التركي هاكان فيدان، في تسجيلات سبق أن تسربت له، عندما كان رئيساً للاستخبارات التركية، كان قد تحدث عن إرسال عملاء له ليضربوا الأراضي التركية ببضعة قذائف لتتشكل ذريعة للتدخل في سوريا.
“الجولاني” وتركيا و”إسرائيل”
تتعدد دوافع تصعيد “هيئة تحرير الشام” في ريفي حلب وإدلب، إلى عوامل داخلية وخارجية، إذ يتعرض “الجولاني” إلى تحديات داخلية متعلقة بالانقلاب عليه، ولذلك، قام في السنوات الفائتة بتصفية العشرات من المناويئين له في جسم “الهيئة التنظيمي”، الذي يسمّى “جناح الصقور”، بقيادة “مظهر الويس وأبو ماريا القحطاني” الذي قُتل في إدلب بظروف غامضة.
ومن بين الأسباب الداخلية الرئيسة التي قد تدفع “الجولاني” إلى استئناف العمليات ضد الجيش السوري، الرغبة في تعزيز موقفه بين الفصائل المسلّحة في شمال غربي سوريا، فعلى الرغم من أن “الهيئة” هي القوة الأكبر في هذه المنطقة؛ فإنها تواجه صعود فصائل أخرى، فضلاً عن الضغوط الشعبية بسبب تدهور الوضع الاقتصادي والإنساني، فكما يبدو، يمنح التصعيد العسكري “الهيئة” الفرصة لإعادة تثبيت نفسها كقوة مؤثرة.
يُضاف إلى ذلك، أن التصعيد قد يكون جزءاً من استراتيجية “هيئة تحرير الشام” للضغط على القوى الدولية، للحصول على تنازلات أو اعتراف بمكانتها السياسية، فمن خلال هذا التصعيد، قد تسعى “الهيئة” إلى إبراز نفسها كفاعل أساسي في المعادلة السورية.
كما استفاد الجولاني من الفوضى الدولية، بما في ذلك الانشغال الروسي في الحرب الأوكرانية، والفوضى الإقليمية التي افتعلتها إسرائيل في عدوانها على غزة ولبنان، وفي هذا الصدد لفت الصحفي المتخصص في الشأن التركي سركيس قصارجيان، إلى التوقيت الذي حصل فيه تصعيد “الهيئة”، بعد التهديدات التي أطلقها رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى سوريا عند إعلان وقف إطلاق النار مع لبنان، موضحاً أنّ العامل الإسرائيلي شجّع “الهيئة” التي قدّمت أوراق اعتماد إلى “تل أبيب” من قبل.
وفي السياق نفسه، يرى الصحفي المتخصص في الشأن التركي سومر سلطان، أنّ التصعيد التركي في شمال سوريا مرتبط مباشرة بالوضع في جنوبها، وخصوصاً بالحرب بين “إسرائيل” وحزب الله، فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان يراهن على أن يتمكن “الجيش الإسرائيلي” من تدمير دفاعات المقاومة، وأن يوسّع هجومه فيجتاح جزءاً من الأراضي السورية في الجنوب، وعندها يتمكن أردوغان من الاجتياح في الشمال مستغلاً انشغال الجيش السوري بمعالجة الخطر الصهيوني.
روسيا وسوريا وتركيا
أوضح الصحفي سركيس قصارجيان لـ “أثر”، أن هناك خلافات بدأت تطغى بين موسكو وأنقرة بسبب تزايد الدعم التركي لأوكرانيا، ونتيجة مواقف تركيا بسبب الحرب في أوكرانيا، فإن تركيا تحدثت للمرة الأولى عن رفض ضم روسيا للقرم، كما أنه للمرة الأولى استعمل مبعوث الرئيس الروسي الخاص إلى سوريا ألكسندر لافرنتييف مصطلح الاحتلال التركي لسوريا.
ويشرح قصارجيان لـ “أثر”، أنّ هذا الاستخدام يعني أن روسيا بدأت تصيغ سياستها الخاصة بسوريا على اعتبار أن تركيا دولة احتلال، وليس شريك في “أستانا” و”سوتشي”، فالعمليات التركية السابقة لم تحدث من دون ضوء أخضر أمريكي وروسي أيضاً، مشيراً إلى أنه يمكن أن تتغير التفاهمات الروسية- التركية في هذا الشأن إذا رأى أردوغان مع وصول ترامب إلى الرئاسة الأمريكية أنه لن يلبي طموحاته ولاسيما أن سياسات ترامب اتجاه سوريا غير واضحة حتى اللحظة”.
ومن الواضح أنّ السياسة الخارجية التركية تمر في تحوّلات منذ نجاح ترامب في الانتخابات الأمريكية، إذ عادت المواقف التركية التقليدية الداعمة لسياسة الحلف الأطلسي، وهدفها اقتصادي في المرتبة الأولى، لأن تركيا ترى في الدعم الغربي الاستثماري وسيلة لإنقاذ اقتصادها، والآن مع فوز ترامب أصبحت هذه المواقف أكثر قوة لأن أردوغان يأمل أن تكون واشنطن إيجابية معه، لأن العلاقة كانت متوترة مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، وللمرة الأولى في تاريخ العلاقات التركية- الأمريكية لم يزر أردوغان البيت الأبيض في عهد بايدن.
ويأتي ذلك تزامناً مع تصعيد العدائية في الخطاب التركي اتجاه سوريا، وفي هذا الصدد يرى قصارجيان، أنّ “تركيا التي فشلت بالوصول إلى تفاهم مع دمشق بالطريقة التي تريدها ومع تزايد الاختلافات مع روسيا في أوكرانيا، وهذا سينعكس في الميدان السوري، لكن تركيا ليست في وارد قلب الطاولة في سوريا بسبب ظروفها الاقتصادية الداخلية، فهي ستتعامل بجس النبض السياسي ريثما يصل ترامب إلى البيت الأبيض.
تشير المرحلة الراهنة إلى تحّول عسكري وميداني جديد، أسقط معظم التفاهمات التي نسجتها إيران وروسيا مع تركيا بإنشاء مناطق “خفض التصعيد”، وتالياً اتفاقات بوتين- أردوغان، ومنذ بدء التصعيد الأخير لم تتوضح المواقف الروسية والإيرانية بعد، ولكن من الواضح أن “هيئة تحرير الشام” وفصائلها، بالإضافة إلى فصائل أنقرة حصلت على ضوء أخضر ترافق مع حصولهم على معدات لوجستية متطورة لتنفيذ مهمّة أوكلت إليها.
منذ أن ادّعت “هيئة تحرير الشام” انفصالها عن “القاعدة” منذ تموز 2016، لم تعد تنظر واشنطن إلى “الهيئة” على أنها جهة تهديد فعليّة يمكن أن تضر بمصالح الولايات المتحدة وحلفائها وأمنها بشكل مباشر على غرار “القاعدة” وتنظيم “داعش”، وعملت في السنوات الفائتة على تلميع صورة “الجولاني” في الرأي العام الأمريكي، ووُضعت صورته على غلاف بعض الصحف الأمريكية تزامناً مع تسويق الجولاني للاعتدال بإنشاء حكومة تابعة له تسمّى “الإنقاذ” تتولى السيطرة على الشؤون المدنية في مناطق سيطرة “الهيئة”