خاص|| أثر برس من المفترض أن يكون السوريون ثاني أكبر مهتم وواعٍ بأهمية الاقتصاد، بعد ماركس! وهذا ليس من باب التندر أو التبكيت، وإنما من باب أن الوعي بالواقع هو شرط لازم لتدبيره وتجاوزه، على ما في المسألة من صعوبة تقارب حد الاستحالة، باعتبار الظروف والإمكانات والتوجهات والإكراهات في بلد يشهد حالة حرب مركبة ومعقدة ومتعددة الأنماط والتداخلات والتخارجات منذ ما يقارب العقد ونصف.
الاقتصاد أمر حيوي، بل هو بالغ الحيوية، وهو “قاطرة التاريخ”، بمعنى مستعار من ماركس (بتصرف طفيف)، لدرجة لا يصح معها تركه لرجال المال والأعمال والاقتصاد والتحليل الاقتصادي والاقتصاد السياسي لوحدهم، الكثير من الكوارث الاجتماعية والسياسية تأتي من مصادر تُعد موثوقة تقنياً وإدارياً وأكاديمياً، وبالطبع إيديولوجياً!
وليس في نية المقال أن يتحدث عن البيروقراطية الاقتصادية الحكومية والسياسات الاقتصادية العليا وخبرائها ومستشاريها ومحلليها وإيديولوجييها، ودورها أو وزنها النسبي فيما يحصل وما لا يحصل في اقتصاديات البلاد، نجاحاتها وإخفاقاتها. فهذا أمر له أهله والمهتمون به. وما يحاوله المقال هو الإضاءة على ضرورة أن يكون التفكير في المسألة الاقتصادية في أفق مشروع وطني لسورية، يجمع السوريين، في خط توافق ينطلق من أوليات سورية هي “فوق السياسة”، إن أمكن التعبير.
هذا الكلام لا يقلل من شأن الخبرة والخبراء، ولا من شأن المختصين في الاقتصاد والاقتصاد السياسي والإدارة والتخطيط والتنمية إلخ في هذا البلد المشرقي الجميل؛ لكنه يدعو لشيء من التمهل والتعقل والتواضع، لجهة إدراك الحاجة لمعرفة: المجتمع والبنى والتكوينات والتفاعلات والوقائع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ونظم القيم واتجاهات الفهم والتفكير في السياسة والحكم والسلطة والدولة، والتداعيات الاجتماعية والسياسية للأفكار والخطط والاقتراحات ذات الصلة، وخاصة تدبير اقتصاديات وعيش الأفراد والجماعات والمجتمع ككل، وخاصة في ظل الأزمات والكوارث والحروب.
ينفتح الكلام على صعوبات كثيرة، لا نريد أن نُعَقِّد المهمة، ولا أن نجعلها مستحيلة، ولو أنها كذلك أو تكاد، إذ من أين يمكن تحصيل أو تحقيق كل تلك المعارف، وهل يمكن لفاعل أو أكثر الحصول عليها، بل هل هي موجودة لدى أي جهة في البلاد أو حتى في العالم، أو لدى أي طرف مهما كانت مكانته أو مقامه في المعرفة والخبرة؟
بالطبع الكلام ليس موجهاً لأحد بعينه، وهو في الوقت نفسه موجه لكل أحد، بلغة “نيتشه”، الصحيح أن “لا أحد” يمكنه أن يحمل ذلك أو يتحمله بمفرده؛ لكن يجب الاعتراف بأن أكثر ما يقال في الخطط والسياسات الاقتصادية والبرامج والاستجابات العاجلة أو القصيرة أو المديدة إلخ لا قيمة له تقريباً، وكثير منها لا يصلح للقراءة، وإذا كان ثمة خطط أو أفكار أو برامج ذات قيمة، فقد لا تكون قابلة للتطبيق، وإذا كانت قابلة للتطبيق، فعادة ما توكل إلى أفراد أو جهات غير كفؤة أو لا صلاحيات أو موارد لديها إلخ.. ثمة أمثلة عديدة في هذا الباب، ولن يجد القارئ المهتم صعوبة في التحقق من ذلك، وأن المزيد من التحليل في هذا الباب يتطلب حيزاً رؤيوياً وبحثياً مختلفاً.
في السؤال عن أطر أو اشتراطات التفكير في الهوية الاقتصادية المنشودة، أو بالأحرى الاستجابات الاقتصادية الناجعة للواقع الراهن في سوريا، فقد يكون “الشرط الشارط” هو: أن يكون ذلك في إطار “مشروع وطني”، من حيث الرؤى والمنطلقات والغايات، ويبدو أني أستخدم هنا لغة مهجورة بعض الشيء، هل قلت “مشروع وطني”؟! الإجابة بالنسبة لي، هي: نعم، لا بد من “مشروع وطني” في أفق مجتمع ودولة سوريين.
أعلم أن كلمة “وطني” أو “وطن” قد لا تكون مُدْرَكَة أو مُوعىً بها بالتمام، ولَحِقَها الكثير من الحيف وسوء التقدير والتدبير، وتُستَعْمَل كثيراً في غير موضعها، وأحياناً بالضد من منعاها ومقتضياتها، وقد لا تكون محل توافق بين السوريين في خط تفكيرهم ووعيهم العام، قبل حدث 2011 وبعده، وأن ثمة تمزقات وصدوع كبيرة ومتزايدة بهذا الخصوص، وأن التوصل إلى “وعي” و”توافق عام” حول فكرة “وطن” ليست مسألة يسيرة ولا قريبة، وقد تكون من أصعب المهام أمام المشتغلين بالشأن العام والسياسات في البلد.
وأعلم أن كلمة “مشروع وطني” لا تحيل تلقائياً، تقديرياً وإدراكياً، إلى معاني الاقتصاد والإنتاج بالمعنى الذي يعرفه أهل الاختصاص والاهتمام، وإنما إلى معنى الاقتصاد السياسي للمجتمع، والإنتاج الاجتماعي، والتنمية الشاملة، والتوزيع العادل أو المتوازن للموارد، والحريات الفردية والاجتماعية، والبيئة ذات القابلية للمبادرة والعمل والإنتاج والتداول والمداولة إلخ…
وقد تحيل عبارة “مشروع وطني” إلى معانٍ أوسع وأعمق من ذلك، وبالطبع متضمنة ما ورد أعلاه، وتتمثل في “إعادة التفكير” في معنى المجتمع والدولة، في خطين رئيسين يبدوان متعاكسين، لكنهما متمفصلان، يتعلقان بالواقع الراهن وتداعيات وإكراهات الحرب، الأول يتطلب الانطلاق من الواقع، والآخر على الضد منه.
وقد يتطلب الأمر بعض التوضيح:
o الأول: خط الانطلاق من الواقع الراهن في البلاد، بكل تمزقاته واختلالاته، وتداخلاته وتخارجاته، في الداخل والخارج، وبكل أنماط القيم واتجاهات السياسة الطارئة والمشوهة ورهانات الآخرين فيه، وهذا لا يصلح أساساً أو منطلقاً لبناء “مشروع وطني” بمعنى الكلمة.
o الثاني: خط “ضد الواقع”، وهو مطلوب ومرفوض في آن: (1) مطلوب، لأن من الضروري لأي “مشروع وطني” أن ينطلق من وقائع مادية ومعنوية لا يمكن إغفالها، وبالتالي الوعي حتى يمكن التعامل معها وتدبيرها، (2) ومرفوض، لأن من الضروري عدم الركون لها، وألا يكون التفكير “مجرد انعكاس” للواقع، بل أن يأخذه بالاعتبار، إنما من أجل تصويبه.
لكن، هل يحيل تعبير “مشروع وطني” إلى معانٍ محددة لدور وموقع الدولة أو السياسة العامة في الاقتصاد والاقتصاد الاجتماعي؟ ثمة كلام كثير في هذا الباب، لكن أكثر ما يقع من سياسات لا يبشر بالخير، وينم عن سوء فهم عميق، وسوء تدبير أعمق.
ثمة اختلالات وتنظيرات أو تبريرات من قبل فواعل السياسة والإدارة الاقتصادية الحكومية أقل ما يمكن أن يقال عنها إنها “منفصلة عن الواقع” و”مشوهة”، حتى لا أقول إنها “غير بريئة”، وبالطبع لا تتحرك في أفق التدبير والعلاج أو الاستجابة الناجعة للواقع الكارثي والفاجع في أحوال الناس، ولن أذهب بعيداً في هذا الباب.
لكن، هل يمكن أن يتوافق السوريون على “مشروع وطني”؟ وهل يقبل فواعل الأزمة (من غير السوريين) أن يقوم “مشروع وطني” يشمل مناطق وجغرافيات السيطرة المختلفة واقتصاداتها المختلفة أيضاً؟ هذه أسئلة مطروحة للتفكير والإجابة، لكن ليس مجرد الإجابة/الخطاب، وتتطلب وعياً “متجهاً للفعل”، بمعنى مستعار من المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، وهذا أيضاً باب يتطلب الكثير من التقصي والتدقيق.
وإذا أمكن التوصل إلى “تدبير عقلاني” لمعنى “وطن” و”مجتمع” و”دولة” بين السوريين، وهذا أقرب لـ “التمني” منه لـ”اليقين”، ولا شيء يقيني في هذا البلد المشرقي الجميل، إلا فواجعه وكوارثه، ونكبته بأهله قبل خصومه، فمن الممكن أن يقوم المشروع الاقتصادي الوطني المنشودة في سوريا على أربعة أركان أو أربع دعائم: (1) العمل والإنتاج، (2) التوافق الوطني والمشاركة، (3) العدالة الاجتماعية، (4) الأمن، وهذه مفردات أو أركان أو دعائم معروفة لدى المتابعين والمهتمين في خط المعنى الرئيس لكل منها، ولو أن الأمر يتطلب المزيد من التدقيق والتقصي والتحليل.
وهذا يتطلب “سياسات عامة”، بالمعنى العميق والأنيق والرشيق للكلمة، تأخذ بالاعتبار اختلاف أو تعدد أنماط العمل والإنتاج، وطبيعة الموارد، وطبيعة التكوينات والتفاعلات الاجتماعية-الاقتصادية، وتعدد أنماط القيم والتطلعات والتوقعات لدى مختلف الشرائح الاجتماعية والاقتصادية في البلاد، وبالطبع تقصي وتدبير مصادر التهديد-الفرصة، في الداخل والخارج.
وفي الختام، يبدو أن المزيد من المعرفة بالواقع، لا تفضي بالضرورة إلى المزيد من الكفاءة والنجاعة في تدبيره، وقد تجعل الأمر أكثر صعوبة، وربما تخلق ردود فعل واستجابات سالبة، غير أن الهمة والإقدام كفيلان بتجاوز ذلك.
الدكتور عقيل سعيد محفوض