زياد غصن || أثر برس بعد مرور ما يقارب شهر ونصف على قرار رفع أسعار جميع المشتقات النفطية، وما شكله ذلك من إشعال فتيل انفجار تضخمي طال جميع السلع الغذائية وغير الغذائية، وفي ضوء محاولة الحكومة الهروب إلى الأمام بغية إخلاء مسؤوليتها عما تسببت به من كوارث اقتصادية واجتماعية، فإن هناك سؤالاً لابد من طرحه اليوم والإجابة عليه بموضوعية شديدة، وهذا السؤال هو كالتالي: هل ما فعلته الحكومة لتمويل زيادة الرواتب والأجور كان الأقل ضرراً من الخيار الآخر المتعلق بتمويل الزيادة من زيادة التمويل بالعجز أو طباعة المزيد من العملة؟ أو لنطرح السؤال بطريقة أخرى أكثر مباشرة.. هل كانت نسبة التضخم ستكون أكثر أو أقل فيما لو جرى تمويل زيادة الرواتب عبر استدانة وزارة المالية من المصرف المركزي، الذي سيكون مضطراً لوضع كمية جديدة من العملة في التداول؟
الإجابة على مثل هذا السؤال، وفي ظل الظروف التي تمر بها سوريا حالياً، لا يمكن أن تكون مجردة أو علمية بحتة لا تأخذ بعين الاعتبار أثرها المباشر سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، وأعتقد أن الحكومة عندما قررت السير في مشروعها المتعلق برفع أسعار المشتقات النفطية لم تدرس شيئاً ولم تستشرف ماذا سيترتب على ذلك القرار من مشاكل اجتماعية ومعيشية وزيادة حدة الاحتقان الذي حذرنا كثيراً من أنه قاب قوسين أو أدنى من الانفجار.
– لكن ليس بهذه الطريقة
بداية لابد من الاعتراف بأن الزيادة التي جرت على الرواتب والأجور كانت غير مجدية، ولم تحقق مبتغاها في تقليص بعضاً من الفجوة الواسعة المتشكلة بين الرواتب والأجور وبين مستويات الأسعار المتغيرة يومياً، وهذا ما يذهب إليه أيضاً الباحث الاقتصادي الدكتور فادي عياش الذي يؤكد أن “الزيادة لم تكن كافية، فضلاً عن كونها جاءت متأخرة كثيراً وعاجزة عن مقاربة مستويات التضخم السائدة والمتسارعة، أي أنها جاءت منقوصة، فهي لم تحدث تحسناً فعلياً على مستوى الدخل، ولم تتمكن من تخفيض مؤثر على مستوى عجز الموازنة، بل على النقيض من ذلك أدت إلى مزيد من التضخم والارتفاع المتسارع في المستوى العام للأسعار وتسجيل انخفاض جديد على مستوى الطلب الكلي، والذي يشكل المحفز الأساسي للاقتصاد”.
ويضيف في حديث خاص لـ “أثر برس”: “كان التبرير بأن تمويل الزيادة عبر زيادة أسعار المحروقات أفضل وأقل ضرراً من استمرار التمويل بالعجز، وهذا صحيح من حيث المبدأ. لكن الطريقة التي تمت بها الزيادة أفقدتها الجدوى المرجوة منها، والسبب أن زيادة أسعار المحروقات لم تكن كافية لإطفاء عجزها، وتالياً هذا يعني استمرار العجز وتفاقمه بحكم التضخم المنفلت، والأهم أيضاً أنه لم يتم تحقيق تخفيض فعلي على مستوى عجز الموازنة العامة للدولة”.
وهذا أيضاً ما يذهب إليه الدكتور حسن حزوري أستاذ كلية الاقتصاد في جامعة حلب، إذ وفق اعتقاده “فإن زيادة الرواتب كانت ضرورية، ولاتزال هناك ضرورة كبيرة لتحسين مستوى الدخل كلما أمكن ذلك، لكن الحكومة تسرعت في زيادة سعر المازوت، كونه محرك أساسي لمعظم الفعاليات الاقتصادية. إذ كان ممكن زيادته إنما ليس بالنسبة الحالية، لأنه بالحالة الراهنة تسبب بحدوث تضخم كبير، واستهلك قسم كبير من زيادة الرواتب، وهناك جزء من الإيرادات المتحققة من زيادة أسعار المشتقات النفطية خصص لتخفيض بعض من عجز الموازنة المتذبذب جراء تذبذب سعر الصرف، فكلما استقر سعر الصرف أو تحسنت الليرة السورية أمام العملات الأجنبية، ولاسيما الدولار انعكس ذلك إيجابياً على الموازنة”.
لكن ماذا لو تمت إضافة المؤشرات الاجتماعية والمعيشية إلى عملية المفاضلة بين زيادة أسعار المشتقات النفطية أو اللجوء إلى التمويل بالعجز؟
في الحالة الأولى المتعلقة بزيادة أسعار المشتقات النفطية، فإن الأيام القليلة الماضية أثبتت مرة أخرى أن هذا الإجراء كان سبباً في حدوث موجات جديدة من التضخم الجامح، وعليه فإن ما ترتب على الأسرة السورية من زيادة تكاليف يبقى أعلى بكثير مما حصلت عليه من زيادة رواتب العاملين في مؤسسات الدولة، هذا إذا كان أحد أفرادها يعمل لدى هذه المؤسسا،. كما أن ما شهدته بعض المناطق من توترات اجتماعية على خلفية تلك القرارات يؤكد أهمية قراءة ردة فعل الشارع ضمن العوامل، التي تبنى على أساسها القرارات التي تصنف عادة أنها “غير شعبية”.
أما الحالة الثانية فهي تعتمد على التقدير والدراسة، لكن عموماً فإن خيار التمويل بالعجز سيقود حتماً إلى حدوث تضخم بنسبة ما، لكنه يبقى تضخماً مستتراً، بمعنى أنه غير معروف السبب للأوساط الشعبية، الأمر الذي من شأنه أن يقلل بشكل غير مباشر من حدة الاحتقان الشعبي أو على الأقل يبعد شبح تفاقم الأزمات الداخلية. صحيح أن اللجوء إلى التمويل بالعجز أياً كانت نسبته “مكروه” خاصة إذا كان تمويل إنفاق استهلاكي، لكن هناك حاجة لتقدير نسبة التضخم فيما لو لجأت الحكومة إلى استدانة 4000 مليار من المركزي ومقارنتها بنسبة التضخم الحاصلة بعد رفع أسعار المشتقات النفطية، ومثل هذه الدراسة لا يمكن أن تجريها سوى المؤسسات الحكومية المعنية، لكونها تملك المعلومات الأساسية المطلوبة للدراسة.
– خيارات أخرى
ومع ذلك، سوف نعتبر أن الخيار الأفضل المتاح حالياً لتمويل زيادة الرواتب والأجور هو اللجوء إلى الخيار التقليدي المتمثل في رفع أسعار المواد والسلع المدعومة حكومياً، إلا أن الحكومة ارتكبت أخطاء كبيرة في طريقة توزيع الزيادة السعرية، وعليه فإن الخيار الأفضل الذي كان يمكن أن تنفذه الحكومة بحسب الدكتور عياش هو “رفع الدعم عن البنزين بالمطلق، أي إلغاء العجز في قيمته، وبيعه بربح مناسب لتحقيق إيرادات جديدة، خاصة وأن تأثيره على المستوى العام للأسعار سيكون محدوداً، لأنه ليس عنصر أساسي من عناصر الكلفة، فمثلاً لو تم تسعير الليتر الواحد بحوالي 15 ألف ليرة لكان الربح اليومي يصل إلى أكثر من 15 مليار ليرة، وهذا كان كفيلاً بإطفاء عجز البنزين بالكامل، وتغطية قيمة زيادة الرواتب، لكن شريطة توحيد وتثبيت وضبط أسعار المازوت والفيول، وبالتالي ضبط التكاليف والمستوى العام للأسعار، فالمازوت عنصر كلفة أساسي، وهذا كان من شأنه تحفيز الإنتاج وتنشيط الطلب المتاح والتخفيف من أثار الصدمة التضخمية. أما زيادة أسعار المازوت والفيول كما جرى، فكان من الطبيعي أن يؤدي إلى موجة تضخمية على المستوى العام للأسعار تفوق كثيراً مقدار الزيادة المتحققة في الرواتب”، ويتابع “فمثلاً لو تمت زيادة الرواتب وصدور مراسيم زيادة التعويضات أولاً، وبعدها بشهر واحد فقط جرى زيادة أسعار البنزين فقط مع تثبيت وتوحيد أسعار المازوت (ما عدا المخصص للمنشآت الحيوية كالمخابز) لكانت النتائج أفضل بكثير على مستوى الدخل، والطلب، والتضخم، وعجز الموازنة”.
وإضافة إلى ما سبق من خيارات، يقترح الدكتور حزوري عدة مصادر كان يمكن الاعتماد عليها في توفير إيرادات لتمويل زيادة الرواتب منها مثلاً “اللجوء الى الاستثمار الأمثل لأملاك الجهات العامة والوحدات الإدارية المختلفة، وبذلك يمكن تأمين كتلة هامة تخصص لزيادة الرواتب والأجور، إضافة إلى ضغط الانفاق غير الضروري، الاستثمار الأمثل للسيارات الحكومية من خلال توقيف عدد كبير منها غير مجد اقتصادياً وتخفيف نفقات البنزين والصيانة، وكذلك تخفيض الانفاق من خلال عقد اجتماعات عن بعد للإدارات والمؤسسات العامة، وبذلك نوفر نفقات النقل والانتقال، بمعنى يمكنها رفع كفاءة الإنفاق العام بشكل كبير، وتوفير كتلة هامة لتمويل الرواتب”، ويختم كلامه بالتأكيد أنه “على الحكومة أن تتوقف عن التمويل بالعجز من خلال الاقتراض من البنك المركزي لتمويل إنفاق استهلاكي، عليها أن تبحث عن مشاريع استثمارية تزيد الإنتاج المحلي وتخفض من الاستيراد، وتزيد من العرض السلعي ما يؤدي إلى خفض الأسعار نتيجة زيادة العرض”.