كتب زياد غصن .. منذ سنوات عدة، ونحن نطالب على مختلف المنابر الإعلامية والبحثية بإجراء تقييم موضوعي للسياسات الاقتصادية المطبقة قبل الحرب وخلالها، والدعوة إلى إجراء حوار اقتصادي وطني لبحث سبل الخروج من الأزمة الاقتصادية أو على الأقل وقف تدهور المستمر لحظياً، وذهبنا أبعد من ذلك، وقلنا: إذا لم تكن لديكم ثقة بموضوعية الخبرات الوطنية، لتتم الاستعانة إذاً بخبراء من الدول الصديقة.
لكن كل الحكومات المتعاقبة كانت تقابل تلك الدعوات بالتغني بإنجازات ما قبل الحرب وتبرر سياساتها الراهنة بالعقوبات، وما خلفته الحرب من أضرار في الموارد الوطنية والمنشآت الإنتاجية، ودون الاعتراف بذنب واحد فقط.
في السطور نقف على وجهة نظر الدكتورة لمياء عاصي وتقييمها الاقتصادي لمرحلتي ما قبل الحرب وخلالها، مع الإشارة إلى أن د. عاصي شغلت عدة مناصب حكومية أهمها: منصب وزيرة الاقتصاد والتجارة في العام 2010، ثم وزيرة السياحة في العام 2011.
تبدأ عاصي حديثها بالإشارة إلى أنه كان هناك رأي من خلال معظم النقاشات الاقتصادية التي دارت في الأعوام السابقة حول أسباب الأزمة الاقتصادية وتداعياتها، وكيف وصلت حال البلد إلى ما هو عليه اليوم، بأن المشكلة الاقتصادية الحالية هي حصيلة تراكمية للاستجابة لمتطلبات الصندوق الدولي والبنك الدولي والشراكة الأوروبية واعتماد السياسات الليبرالية في الاقتصاد الوطني، والمعروف أن سوريا ليست دولة مدينة ولا هي بصدد طلب قروض من هذه الجهات الدولية، وبالتالي سورية ليست مضطرة لاتباع سياساتهم، إضافة الى أنها لم توقع الشراكة الأوروبية، وإن كانت ناقشتها لعدة سنوات في مطلع الألفية”، وتتابع “مع بداية الألفية الثالثة توجهت سورية لاقتصاد السوق الاجتماعي، بموجب قرار مؤتمر حزب البعث في سنة 2005، والذي كان المرجو من تبني التوجه الى الاقتصاد الجديد، رفع كفاءة وتنافسية الاقتصاد الوطني لتحقيق التنمية، من خلال توازن قوى الدولة والسوق والمجتمع، بالمحافظة على وجود الدولة القوي مترافقاً مع الاعتراف بقوى السوق والاهتمام بالبعد الاجتماعي”.
– نصف الكأس!
تغفل أو لنقل تهمل معظم الآراء الرسمية والبحثية في مناقشتها للأداء الاقتصادي قبل سنوات الحرب مقاربة نقطتين أساسيتين:
الأولى وتتعلق بالفرص الاقتصادية التي كانت متاحة في تلك الفترة، ولم يجر استثمار سوى جزء بسيط منها، فمثلاً في تلك الفترة لم يعمل المصرف المركزي على الاستفادة من تدفق القطع الأجنبي إلى البلاد لجهة زيادة احتياطيات البلاد من القطع الأجنبي كما فعلت دول مجاورة، وهناك أمثلة كثيرة تشمل جميع نواحي الحياة السورية.
أما النقطة الثانية فهي السياسات المجتزأة التي جرى تنفيذها على مدار سنوات طويلة. فمثلاً نجحت البلاد في تنمية الإنتاج الزراعي لكنها لم تجد حلولاً اقتصادية للفائض، وسمحت للقطاع الخاص أن يستثمر في قطاعات عديدة لكنها أبقت السيطرة أوأعطت مزايا تفضيلية احتكارية للمؤسسات العامة المتهمة رسمياً بالترهل والبيروقراطية القاتلة وبالفساد.. وهكذا.
تستعرض الدكتورة عاصي في حديثها لـ”أثر برس”المتغيرات الرئيسية التي شهدها العقد الأول وانعكيست أثارها على الاقتصاد الوطني، وبحسب وصفها فقد “حصل في سوريا، تغييرات جذرية كبرى في الأعوام من 2005 الى 2010، أهمها كان الجفاف الذي ضرب المناطق الشرقية والشمالية خلال الأعوام من 2006 الى 2009، والذي عمق معاناة الناس وبسببه هاجر حوالي 1،5 مليون قروي الى المدن بحثا عن عمل، وترافق مع الخطوات الأولى لرفع الدعم عن المشتقات البترولية، الأمر الثاني هو تبني الحكومة السورية لاقتصاد السوق الاجتماعي واعتماد الخطة الخمسية العاشرة ، كخارطة طريق للتحول الى الاقتصاد الجديد، فقد كان له تداعيات اقتصادية كبيرة أهمها:
– اعتبر التحرير التجاري أهم مكونات نهج اقتصاد السوق الاجتماعي، ولأن الانفتاح التجاري يكشف نقاط القوة والضعف في الاقتصاد ومستوى القدرة التنافسية لمنتجاته، خصوصا أنه حصل السماح بالاستيراد قبل أن يتم تمكين المؤسسات والهياكل الاقتصادية، وبالتالي فإن نتائج هذا الانفتاح المفاجئ والواسع كانت كارثية، تمثلت بإغلاق آلاف الورش والمعامل الصغيرة وتحول المنتجين إلى مستوردين بينما انضم آلاف العمال الى صفوف العاطلين عن العمل،
– غابت خطوات إصلاح القطاع العام بمؤسساته وشركاته عن الخطة الخمسية العاشرة، مع أنه كان يمثل نقطة ضعف كبرى للخزينة العامة للدولة، بما يحملها من أعباء اقتصادية ومالية كبيرة.
-تنفيذ الخطة الخمسية العاشرة بشكل مجتزأ ومشوه اقتصر على التحرير التجاري الواسع أدى الى انخفاض الإنتاج الصناعي وسوء توزيع الثروة بين السوريين كأفراد وبين الريف والمدينة بشكل واضح وقاسي.
– غياب الإصلاح الضريبي ومكافحة التهرب الضريبي بشكل شبه كامل عن الخطة الخمسية العاشرة واعتبر سبباً هاماً لانخفاض الإيرادات العامة للدولة”.
– مرحلة الاستنزاف:
لست مبالغاً إذا قلت إن جميع السياسات الاقتصادية التي اتبعت منذ بداية فترة الحرب اتسمت بالعشوائية، والتفكك، والارتجال، بمعنى أنها لم تكن نتيجة عملية استشراف وتخطيط وتعاون، ولذلك فقد جاءت متقلبة ومتغيرة بين حكومة وأخرى، وخلال الفترة الممتدة بين عامي 2012 و2020 اتخذت الحكومات المتعاقبة قرارات كثيرة أهمها وأخطرها حسب الدكتورة عاصي كان في السياسة النقدية، ومعظمها انعكس سلباً على الاقتصاد الوطني والمستوى المعيشي للمواطنين، ومنها:
– عدم اتخاذ الحيطة والحذر بالنسبة لاحتياطيات البنك المركزي من العملات الأجنبية وهذا أدى الى بعثرتها ونضوب معظمها، مثل: قيام البنك المركزي في عام 2011 ببيع مبلغ عشرة آلاف دولار لعموم الناس، وضخ الدولار في الأسواق للسيطرة على سعر الصرف في الأعوام من 2012 الى 2016 من خلال “جلسات التدخل ” التي قام بها البنك المركزي، بدون جدوى تذكر.
– وقف منح القروض بشكل كامل عن كل المؤسسات والشركات والمصانع بين عامي 2012، 2017، الأمر الذي أضر بالعملية الإنتاجية وأدى الى انخفاض كبير في اجمالي انتاج السلع،
– منح التجار تسهيلات ائتمانية مقابل ايداعاتهم بالعملات الأجنبية، مما ساهم بانخفاض قيمة الليرة السورية.
-تخفيض الاحتياطي الإلزامي على الودائع التي تحتفظ به المصارف الى 5% في عام 2012 ، وكان 10% قبل ذلك ، مع العام انه في دول مثل مصر تم رفعه في عامي 2022، 2024 الى 14% و 18% على التوالي ، مع العلم أن الاحتياطي الالزامي يستخدم كإحدى أدوات السياسة النقدية للبنك المركزي وبدلا عن اللجوء الى أدوات الدين “سندات الخزينة “، في تأمين السيولة اللازمة لتلبية نفقات الدولة ، كما يتمكن من سحب أو زيادة السيولة للتدخل في السوق ومكافحة ارتفاع معدلات التضخم.
-سياسة تمويل المستوردات بالسعر الرسمي للبنك المركزي (سعر رخيص) بينما طرح التجار السلع في الأسواق بسعر السوق السوداء للدولار( سعر غالي)، وكان البنك قد أعلن عن تمويل مجموعة مواد بلغت ب 41 مادة، وفرق سعر الصرف كان يذهب لجيوب المستوردين على حساب احتياطيات البنك المركزي من العملات الأجنبية.
-التدخل في عمل المصارف لجهة منع سحب السيولة وتقييدها، الأمر الذي انعكس سلبا على الثقة بالمصارف وبالتالي عملية الايداع وكتلة الودائع فيها.
-خروج الرساميل الوطنية من سوريا الى دول أخرى مثل “الأردن، مصر، تركيا، الإمارات” وغيرها.
-التمويل بالعجز والاستدانة من المصرف المركزي “زيادة الكتلة النقدية المتداولة “، كطريقة سهلة ومتاحة لتعويض النقص الحاصل في الإيرادات العامة ولتغطية العجز المالي، ونتج عن ذلك ارتفاع في معدل التضخم الى مستويات غير مسبوقة، مع العلم بأن الدولة بما تملكه من أموال وما عليها من التزامات ستكون الخاسر الأكبر ارتفاع معدل التضخم.
– مرحلة التدهور:
المرحلة الثالثة من عملية المراجعة والتقييم مع الدكتور عاصي بدأت منذ العام 2020 ولاتزال مستمرة حتى الآن، إذ “يعتبر التدهور الاقتصادي في سورية الذي حصل من عام 2020 هو الأعنف ودخول الاقتصاد الوطني في دوامة “الركود التضخمي”، حيث ترافق ارتفاع سعر الصرف والسلع والخدمات مع تدني القدرة الشرائية للمواطن، إضافة الى تغير سعر صرف الدولار مقابل الليرة السورية من حوالي 900 ليرة في بداية 2020 الى حوالي 14000 ليرة في بداية عام 2024، ذلك التدهور الاقتصادي كان مدفوعاٍ بعدة عوامل تلخصها الوزيرة السابقة بما يلي:
-أزمة وباء كورونا، وصاحبها من ارتفاع أسعار المواد المستوردة عموماً بسبب الإغلاقات العالمية وما خلقه من ارباك وخلل في سلاسل التوريد، إضافة الى أن إغلاق معظم القطاعات محلياً، وهذا ما سبب انعدام الدخل لمعظم الأسر التي باتت تحتاج معونات عاجلة غذائية على الأقل.
-الأزمة النقدية في المصارف اللبنانية والتي نجم عنها تضرر السوريين المودعين في المصارف اللبنانية، وقدرت تلك الإيداعات بما يتراوح بين 6 و7 مليارات دولار.
-قانون قيصر والعقوبات الغربية المفروضة على سوريا، وما سببته تلك العقوبات من صعوبات وتكاليف إضافية لعمليات الاستيراد وارتفاع أسعار المواد المستوردة والمواد اللازمة للإنتاج.
-اهتزاز الثقة بالقطاع المصرفي لعدة أسباب أولها أن سعر الفائدة المعلن عنه من قبل البنك المركزي، والذي هو أقل بكثير من معدل التضخم، إضافة الى استمرار تقييد السحب النقدي من المصارف، الأمر الذي أدى الى انخفاض كتلة الإيداعات بالليرة السورية.
-استمرار التمويل بالعجز، وهو أهم العوامل المؤدية إلى التضخم وتدني قيمة الليرة.
-الإجراءات التي اتخذتها الحكومة لحل بعض المشاكل الاقتصادية، كانت نتائجها أسباب لمشاكل جديدة أكثر شدة وعمقاً، فمثلاً صدرت عدة قرارات لرفع أسعار النفط والكهرباء بغية معالجة العجز المالي في الموازنة العامة، ولكن هذه القرارات سببت ارتفاعاً في تكاليف الإنتاج الصناعي والزراعي.
حوار وطني:
تختم الوزيرة عاصى بالتأكيد مجدداً إلى “أن الأزمة الاقتصادية الحالية هي نتيجة تراكمية لمجموع السياسات المتبعة في كل مرحلة، واليوم الحكومة بحاجة ماسة لإعادة رسم ومراجعة سياساتها وإعادة تحديد الأولويات، وإعطاء الإنتاج بكل أنواعه الزراعي والصناعي والخدمات الأولوية الأولى واتخاذ شعار “دعه يعمل.. دعه يمر” أساسا لكل السياسات العامة”، وهذا لا يمكن ترجمته إلا من خلال التوجه نحو إطلاق حوار وطني اقتصادي يحضر له بمسؤولية وموضوعية، وإلا فإن الفكر الحكومي القائم حالياً على محاولة وضع سياسات قاصرة وضعيفة ضمن الغرف المغلقة وعلى قياس البعض، لن ينتج سوى مزيداً من التدهور الاقتصادي والمعيشي والاجتماعي، ويجعل من محاسبتها واجباً وطنياً.