زياد غصن || أثر برس على مدار السنوات الماضية، كانت اللوحة المعدنية التي تنتصب على مدخل حلب الجنوبي، وتحمل اسم المركز الدولي للبحوث الزراعية في المناطق الجافة “إيكاردا”، إحدى الشاخصات “الإعلانية” التي يستدل بها عادة زوار العاصمة الاقتصادية للبلاد عن قرب وصولهم للمدينة، لكن القليل جداً منهم لديهم معرفة بما تخفيه هذه اللوحة من ثروة اقتصادية عالمية تراكمت عبر ما يزيد على أربعة عقود من التعاون بين الحكومة السورية والمركز المذكور.
فإلى جانب المزرعة البحثية التي تمتد على مساحة تقدر بنحو 947.2 هكتار موزعة على أربع قرى (تل حديا-البرقوم-الكسيبة-الكماري)، يقبع هناك البنك الوراثي الذي تأسس في العام 1985، وكان يحتوي قبل العام 2012 على حوالي 143 ألف عينة من “الحبوب الشتوية الرئيسية، البقوليات الغذائية، الأعلاف، وأنواع نباتات المراعي المأخوذة من أربعة مراكز رئيسية للتنوع النباتي في منطقة فافيلوف الروسية، “الهلال الخصيب” في غرب آسيا، مرتفعات الحبشة في إثيوبيا، ووادي النيل، حيث تم تسجيل أقدم ممارسات لتدجين المحاصيل المعروفة لأول مرة، مع الإشارة إلى أن عدداً من النباتات انقرض أو أصبحت معرضة للخطر في مواطنها الطبيعية”.
وأهمية البنك الوراثي السوري تتأتى من كونه يشكل حافظة لجميع سلالات بذور الإنتاج النباتي، التي تم جمعها في سوريا ودول أخرى عديدة عبر عقود طويلة من البحوث والتجارب العلمية، وتالياً فهو أحد 16 فرعاً رئيسياَ للمستوعب الوراثي العالمي في سفالبارد الكائن في أحد كهوف القطب الشمالي، وهو المستوعب الملقب بـ “سفينة نوح للنباتات”.
عينات مفقودة:
هذه الثروة فقدت مع سيطرة الفصائل المسلحة على مقر المركز والمجموعة الرئيسية المخزنة في قرية “تل حديا”، ومنعها باحثي “إيكاردا” من الوصول إليها، وليتبين مع تحرير الجيش السوري للمنطقة أن البنك الوراثي دمر بالكامل، وأن المجموعة الكاملة للعينات المحفوظة في البنك مفقودة، ولا يُعرف إلى الآن مصير تلك العينات، والتي كان المركز قد عمل منذ سيطرة المسلحين على محاولة إعادة تشكيلها من خلال قيامه بإنشاء بنكين وراثيين في المغرب ولبنان لنقل بعض العينات التي بقيت موجودة، واسترداده النسخة الاحتياطية من مستوعب سفالبارد ليصار إلى إكثارها ومن ثم إعادة النسخة الاحتياطية إلى سفالبارد.
لم تنتظر وزارة الزراعة طويلاً لتعمل على إعادة تأهيل البنك الوراثي في منطقة “تل حديا” نظراً لأهميته في رفد القطاع الزراعي السوري بسلالات إنتاجية مطورة لمختلف أنواع محاصيل الحبوب والبقوليات وحفظ المعلومات المتعلقة بالموارد الوراثية النباتية، وبحسب ما يشير إليه وزير الزراعة حسان قطنا فإن “العمل بدأ منذ العام 2020 على محورين بالتعاون مع “إيكاردا”: الأول إعادة تأهيل الأبنية الإدارية والمنشآت الخاصة بالبنك الوراثي والبنى التحتية من مخابر وآبار مياه وكهرباء وغيرها، والمحور الثاني ويتضمن العمل على استعادة الموارد الوراثية النباتية وقد تم لغاية نهاية العام الماضي استعادة ما يقرب من 3500 عينة من الموارد الوراثية النباتية المجموعة من سوريا، حيث تم إيداعها وحفظها ضمن غرفة التبريد العميق لدى قسم الأصول الوراثية في الهيئة العامة للبحوث العلمية الزراعية”، ويتوقع وزير الزراعة في حديثه لـ “أثر برس” أن يتم خلال الأيام القليلة القادمة افتتاح البنك الوراثي وإعادته إلى العمل بشكل رسمي.
وتبعاً لبيانات “إيكاردا” فإن عدد العينات المجموعة من سوريا يبلغ حوالي 9 آلاف عينة “تم مؤخراً إعادة نسخة منها إلى البرنامج الوطني في الهيئة العامة للبحوث العلمية الزراعية، ويتم تزويد الهيئة بما تطلبه من مواد أخرى مجموعة من مناطق أخرى من العالم بحسب الطلب”، وتضم المجموعة التي كانت محفوظة في البنك الوراثي السوري نباتات كثيرة منها: شعير، قمح طري، حمص، فول، نباتات علفية ومراعي، حمص بري، شعير، عدس، عدس بري.
وفي خطته البديلة التي تركزت على إحداث بنكين في المغرب ولبنان، عمل مركز “إيكاردا” على تخزين الأنواع المزروعة من القمح والشعير والحمص والعدس في المغرب، وتخزين الفول والبازلاء والأنواع البرية من الحبوب والبقوليات في لبنان، كما يحتفظ بنك الجينات بأكثر من 1380 عينة من سلالات الريزويبوم وهي حيوية لتمكين البقوليات من الاستفادة من النيتروجين الجوي وزيادة خصوبة التربة.
ثورة القمح السورية:
يعود التعاون بين الحكومة السورية و”إيكاردا” إلى العام 1977 تاريخ المصادقة على عقد التعاون الموقع بين الجانبين، والذي تم بموجبه إحداث البرنامج المشترك العلمي للتعاون الذي بدأ نشاطه منذ الثمانينات وما يزال مستمراً إلى اليوم، وأثمر عن تطوير عدة تقانات زراعية، وكان من أهم إنجازات ذلك التعاون المساهمة بحسب الهيئة العامة للبحوث العلمية الزراعية السورية وصول البلاد إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي في إنتاج القمح في تسعينات القرن الماضي، من خلال تطبيق حزمة متكاملة من التقانات تضمنت الأصناف والري التكميلي والعمليات الزراعية.
وتكشف الهيئة في مذكرة خاصة حصل عليها “أثر برس” أن “إيكاردا” لا تزال ترفد الهيئة سنوياً بعشرات السلالات المبشرة والإكثارات من المشتل الدولي لمختلف أنواع محاصيل الحبوب والبقوليات التي يعمل عليها المركز وذلك لإدخالها في برامج التربية أو لاختبار مدى ملاءمتها للبيئة المحيطة.
وتضيف أنه من بين المشاريع التي تم تنفيذها بين “إيكاردا” والهيئة العلمية لبحوث العلمية الزراعية خلال السنوات الأخيرة مشروع تعزيز الأمن الغذائي في البلدان العربية في سوريا بمرحلته الثالثة في منطقة السفيرة ودير حافر (ريف حلب) والتي بدأت خلال الفترة الممتدة بين 2019 و2023، ومشروع اختيار وتطوير بذارة المساطب المرتفعة في الظروف المحلية، حيث قامت إيكاردا باستيراد “بذار مساطب مرتفعة وتم اختبارها وساهمت بحسب نتائج الاختبار بزيادة كفاءة استخدام مياه الري في مشاريع الري السطحي وزيادة الإنتاجية وتقليل استهلاك البذار، وهناك مشاريع ينفذها المركز مع جهات حكومية سورية أخرى.