أثر برس

“مَفْهَمة” سوريا!

by Athr Press

لعل من أهم المشكلات وأكثرها صعوبة أمام “السوريين”، هو “مفهمة سوريا”، التي تشهد حالة من “السيولة” في كل ما يتصل بها. وتبدو أقرب لـ”تكوينات” الملل والنحل، والقبائل والعشائر، منها لـ”مجتمع” و”دولة” بالمعنى المعروف في العلوم الاجتماعية . والواقع أن ثمة “مدارك متناقضة” لدى السوريين، وحولهم: الكثير من الآمال، والكثير من المخاوف في آن.

ومفهمة سوريا، هي العمل على تحديد أو تعيين أو تشكيل الحد الأدنى من التوافق على معنى أن يكون المرء سورياً أو تكون المرأة سورية، والمعنى الملازم لكلمة “سوريا” و”سوريين”، وبالطبع خط المعنى الرئيس لـ”مجتمع” و”دولة”. وهذا مجرد عنوان عريض لتجاذبات كثيرة حول الدين والمجتمع والدولة والتكوين الإثني والديني والحياة الحزبية والمشاركة وحكم القانون الخ و”المفهمة” لازمة في منحيين أو مستويين رئيسين: الأول، فكرة وتصور السوريين عن أنفسهم. والثاني، مدارك وتصورات الآخرين عن سوريا. وكشفت التطورات عن أزمات واختلالات كبيرة بهذا الخصوص.

*

يفترض الحديث عن “مفهمة سوريا” أن كلمات مثل: “سوريا” و”السوريين” و”مجتمع سوري” و”دولة سورية” الخ، لا تزال تنطوي على معان جامعة، في الواقع والمعيوش والتفكير والتطلع، وليس مجرد التابعية السياسية والقانونية. والافتراض هنا، ليس مقولة بحثية أو اختبارية بقدر ما أنه أمل أو تطلع، لدى الكاتب، مع شريحة من السوريين والمعنيين بالحدث السوري. ولا نعلم حجم الشريحة المفترضة أو المأمولة، فقد تكون كبيرة، إلا أن تعبيرها عن نفسها لا يزال قليلاً أو ضعيفاً مقارنة بالشرائح الأخرى، ذات التوجه الطائفي عموماً، وهي الأكثر حضوراً والأعلى صوتاً حتى الآن.

من الواضح أن اتجاهات القيم والتعبير في سوريا وعنها، أخذت تبتعد عن معاني وطن ووطنية وأمة ومواطنة، إلى معاني الملة والجماعة والقبلية والطائفية والمنطقة/الجهة، وتبتعد عن معاني الدولة إلى معاني السلطة والعصبة. وهذه تطورات ثقيلة تكاد تصيب “فكرة سورية” بمقتل، وتكاد تُغرِق الظاهرة السورية بالعنف والتطييف والانقسام، وتجعلها “اسماً على غير مسمى”.

*

وإذا كان حديث “المفهمة” يتناول الفكرة أولاً، إلا أن ذلك لا يقف عند الخطاب أو الايديولوجيا، بل يُفضي إلى وقائع مادية وعيانية، وقوة ذهنية وتصورية وسوسيولوجية الخ أيضاً. وبالتالي، من المهم أن يتدبر الحديثُ “خط المعنى” الذي يفضي -أيضاً وحكماً- إلى واقع أو وقائع اجتماعية وسياسية واقتصادية، وإلا فسوف يكون الكلام نوعاً من التشكيل البلاغي والخطابي، فائدته قليلة ومضارّه كثيرة.

وهذه مسألة ليست يسيرة، وفي معهود الإقليم، لا يُشتَرَط أن تفضي الأفكار أو التصورات إلى وقائع بالفعل، وأحياناً ما تكون عبارة عن “ادعاءات” و”لوازم” للخطاب والأدلجة، أكثر منها محددات فعلية لـ”تدبير السياسات”. صحيح أن للأفكار والمقولات قوة مخيالية كبيرة، وأحياناً ما يكون لها دور في خلق عصبية وقوة تماسك لفواعل الاجتماع والسياسة، وفي المفاضلة بين الفواعل، وأحياناً في “المزاودة المحاكاتية” و”الصراع على المعنى”، إلا أن الواقع هو الأصل في تقرير حالة فكرة أو مقولة ما. وهذا ما يجب التنبه له وإيلاؤه الاعتبار اللازم.

*

إن “مفهمة سوريا”، ليست فعلاً سياسياً، أو بالأحرى ليست محض فعل سياسي، بالمعنى الذي نعرفه، أي سلطة وتغلب وتحكم سلطوي واستبدادي بتوزيع الموارد. لكن يمكن أن تكون كذلك –أي فعلاً سياسياً- إذا أخذنا السياسة بالمعنى العميق والجليل للسياسة، أي بما هي “حرية” و”تدبير الحياة” و”تنمية” و”مشاركة” الخ

والمفهمة ليست مجرد “التعرف” على واقع جغرافي وبيئي واجتماعي واقتصادي وقيمي. ولا مجرد “الكشف” عن أمر موجود، وما علينا إلا أن نزيح عنه طبقات الغبار أو الغموض أو نقوم بإيضاحه وتبيينه. والمفهمة، ليست مجرد حفر في طبقات التاريخ والانثروبولوجيا وصولاً إلى النسخة المطلوبة من الفكرة والقيمة. ولا مجرد “إحياء” لأمر كان موجوداً فيما مضى من زمن. ولا عودة إلى لحظة سابقة مرغوبة، ولا تكييف الواقع على منواله، ولا إسقاط أفكار اليوم على ما كان في الماضي. وليست مجرد فعل “تسمية” و”توصيف” أو “إطلاق” أو “إسقاط” تسميات وأوصاف على واقع موجود راهناً أو وقائع وأزمان كانت في الماضي.

*

قد تكون “المفهمة” متقدمة على الواقع نفسه، وتنويراً وتحديثاً وربما تثويراً له، وتسعى لدفعه من حال إلى حال. وبالتالي قد لا تكون الفكرة متوافقة بالتمام مع الواقع، وقد يتم تلقيها بشكل سلبي أو متوتر، وقد ينظر إليها نفسها بوصفها مصدر تهديد من قبل فواعل وشرائح اجتماعية مختلفة. وقد لا تتمكن الفكرة أو الإيديولوجية المعبرة عنها من الإمساك بمتغيرات الواقع الاجتماعي ورهانات الفواعل المختلفة فيه، وخاصة مع حالة التدخلات والتغلغل والتأثيرات الخارجية. وهذه أوجه مختلفة للتحديات التي تواجه مفهمة سوريا، مجتمعاً ودولة بالمعنى الحداثي أو المعنى المعروف في العلوم الاجتماعية.

حتى الآن، كانت محاولة تحديد “المفهمة” بالمعنى السالب أو بمعنى النفي، وبما ليس فيها؛ والصحيح أيضاً هو محاولة التحديد بالمعنى الموجب، أو بما يجب أن تنطوي عليه أو تتضمنه. وهي، بهذا المعنى: فعل “تخليق” و”تشكيل” و”بناء”. وفعل “قصدي” و”مخيالي”. ونوع من “الكولاج” أو و”التكييف” وحتى “التلفيق”.

*

تحيل “المفهمة” إلى الظاهرة السورية ككل، وسيرورة تشكل وتكوين، وتجاذبات بين السوريين أنفسهم، وتداخلات وتخارجات مع الإقليم والعالم. ومعلوم أن الظاهرة السورية في العصر الحديث، وخاصة إبان التشكل الكياني والدولتي، كانت نتيجة تداخل عوامل في الداخل والخارج، وكان الوازع الكولونيالي أساسياً بل مقرراً في ذلك. وسوف يواصل ذلك حضوره في الظاهرة السورية إلى اليوم. لا يزال العامل الخارجي مقرراً أو مرجحاً في مسارات الأمور في البلاد والإقليم. ويجب إيلاؤه الاعتبار المناسب، بأكبر قدر ممكن من الموضوعية!

لكن الأصل في الظاهرة السورية أن تكون “حصيلة” التفاعلات بين الناس أو الجماعات والتكوينات الاجتماعية، والعلاقة بينها وبين المكان أو الحيز الجغرافي التاريخي والانثروبولوجي، بيئة وعملاً وإنتاجاً ومثاقفة، وتفاعلاً بينياً، وتفاعلا أو احتكاكاً مع العالم، سلماً أو حرباً. وإذا أمكن للسوريين أن يركزوا على أنفسهم، ويتخلوا عن أقنعة الذات لديهم، ويتحركوا في أفق مجتمع ودولة، فمن المفترض أن يتغير حالهم وحال الإقليم (والعالم).

لكن الصحيح أن تلك “الحصيلة” لم تخرج بـ “سمات” حاكمة مشتركة بالتمام بين “السوريين” أو من سوف يعرفون لاحقاً باسم “السوريين”، ولا أفكار تعم المجال الجغرافي “السوري”، علماً أنه مجال متفاوت من حيث النطاق والمساحة، ومن حيث التشكلات السياسية والكيانية والدولتية. وقلما كان تطابقٌ أو توافق بين فواعل وتكوينات الظاهرة السورية، سوسيولوجياً وثقافياً وتاريخياً وسياسياً. ولو أن ذلك لا ينفي وجود ما يمكن عده “سمات عامة” أو “مشتركات” يمكن أن تشكل أرضية للبناء عليها، وأرجو أني لا أقلل من المشتركات، ولا أزيد أو أعظم في الفروق، إلا أن ذلك لم يمكن صرفه بالسياسة بشكل مستمر أو مستقر.

في الختام،

ثمة من عمل جاداً وجاهداً في “المفهمة”، منهم من قدم سردية حول سوريا بوصفها جزء من “الأمة العربية” أو “الإسلامية”، ومنهم من قدم سردية حول “سوريا الكبرى” أو “سوريا التاريخية” و”الهلال الخصيب”، ونحن هنا لا نُقَيِّم تلك السرديات. لكن، قليل من عمل على “مفهمة” سوريا بوصفها مجتمعاً ودولة انطلاقاً من الواقع، وتقصياً للإمكان فيه، وتدبيراً لتداخلاته وتخارجاته وتحولاته الكثيرة والمعقدة.

لعل المفهمة، أن تكون، بكلمة واحدة، هي البحث عن إمكان وجود مجتمع له روح وإرادة ومعنى وهوية، من أجل أن يكون للسوريين مقام ومكانٌ ودور وحضور وتأثير في الإقليم والعالم. وما أبعد الشقة!

أثر برس

اقرأ أيضاً