أثر برس

سوريا والتفكير في “تغيير النمط”!

by Athr Press Z

خاص|| أثر برس تذهب الأمور في سوريا إلى المزيد من التدقيق والمراجعة في سؤال لم يتم التعاطي معه بالقدر المطلوب من الجدية حتى وقت قريب، وهو: لماذا وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه، بعد حدث العام 2011 والحرب التي تلته؟ بل لماذا كان الحدث ممكناً؟ ولماذا تزداد ضغوط وإكراهات الحرب على الرغم من تراجع العمليات العسكرية والمواجهات الكبيرة، وكان من المؤمل أن تشهد الأمور تحسناً في مؤشرات الاقتصاد والسياسة والأمن الاجتماعي والقدرة على تلبية الاحتياجات والمتطلبات الأساسية؟

لا شك في أن الأسئلة ليست جديدة، وثمة كلام كثير في هذا الباب، في معرض تحليل وتفسير أسباب الحرب، والتداخلات والتخارجات الكثيرة والمعقدة والممتدة والمُعندة التي طالت الظاهرة السورية ككل، والأسباب التي تحول دون تحقيق استجابات أكثر نجاعة وعائدية وموثوقية لما تعانيه شرائح كبيرة من المجتمع؟ لكن ثمة تغيرات تحدث، على مستوى القراءة والتقدير، ومن المؤمل أن يفضي ذلك إلى تغيرات على مستوى الاستجابة والسياسات العملية.

وفي هذا الباب، يمكن تلمس أسئلة من نمط مختلف: هل يمكن فعل شيء حيال الواقع؟ وإذا كان الحدث معقداً إلى درجة يصعب فيها الإمساك به، وبفواعله وخيوطه وتحولاته، فما الذي يمكن فعله، والحال كذلك؟ وهل ينتظر السوريون إلى أن يكون الحل أو التسوية، وهذا الأمر ليس بيدهم وحدهم، أم أن عليهم فعل أمر ما، على الرغم من كل الأحوال؟

في معرض البحث عن حلول أو استجابات فعالة، من قبل السوريين، في حيز الإمكان الخاص بهم أو الحيز الذي يمكنهم التحرك فيه، قد لا تكون “كلمة السر” مجرد “معاندة” الوقائع والرهانات، بتوسل الأدوات المعرفية والمنهجية والسياساتية نفسها، ولا بـ”إعادة إنتاج” مقولات وتقديرات، قد تكون صحيحة من منظورهم هم، لكنها “غير صالحة” أو “منخفضة العائدية”، في سياق الحدث ككل؛ ولا التعويل على عامل الزمن لإحداث تغيرات في موازين القوة والإمكانات والفرص. وهي تكتيكات معتمدة لديهم اليوم، بدرجات متفاوتة.

وفي معرض البحث عن حلول أو استجابات فعالة أيضاً، تظهر الحاجة لـ”تغيير النمط”، مرة أخرى، في حيز التقدير والفعل الذي يمكنهم التحرك والمبادرة فيه وحياله. المبالغات لا تفيد هنا، ورفع سقف التوقعات فائدته محدودة أو عابرة، وقد يؤدي إلى نتائج عكسية!
الجديد في فضاء الحدث، هو التغير في الرؤية والقراءة وتقييم الذات، وفي تحليل طرائق الفهم وتقييم وتدبير السياسات. والحاجة للذهاب بعيداً وعميقاً في قراءة ما كان منها قبل الحرب، وما استمر منها أو تغير خلالها، وتقصي أنماط الاستجابات حيالها، بالتركيز أكثر على عوامل الداخل، بما في ذلك العوامل الاجتماعية والقيمية والاقتصادية، وبالطبع السياسية. ويتعلق بالأمر بالنسبة للأخيرة بـ”السياسات العامة” أو “السياسات الحكومية”، خلال عقود عدة. وثمة قضايا وموضوعات يمكن تقصي مصادرها منذ فترة الاستقلال، وربما قبل ذلك.

هذا الكلام يستند، في مبررات ودواع أساسية منه، إلى الخطاب السياسي للرئيس بشار الأسد أمام مجلس الشعب (25 آب/أغسطس 2024). وقد يكون (الخطاب) الأهم -على هذا المستوى- في كلام السياسات العامة والحكومية خلال السنوات الماضية، والأهم في قراءة جوانب من أسباب الصعوبات والتحديات التي تواجه البلاد اليوم، وخصوصا في الداخل. كونه يتناول القضايا الأكثر ارتباطاً بـ”الطبقات العميقة” للحدث السوري، “والإشارات والتنبيهات” الأكثر عمقاً حول السياسات الملحة والواجبة بالنسبة لسورية اليوم.

يحيل الخطاب إلى “افتتاح مرحلة جديدة” في تقدير وصناعة السياسات، و”مراجعة” أنماط التفكير في السياسة. وثمة قراءة عميقة للحدث السوري بعين الواقع. والواقع اليوم ليس محض نتيجة للحرب، بل هو “نتيجة تراكمية لعقود من السياسات العامة في مختلف القطاعات… ثَمَّ لا بد من مناقشة الماضي بالمقدار نفسه الذي نناقش فيه الحاضر، لكي نعرف … لماذا وصلنا إلى هذا المكان وإلى هذا الواقع؟”

لا شك في أنه ثمة أسباب موضوعية، لما نحن فيه، “هي أكبر من طاقة البلد، كالحرب، كالحصار، كالإرهاب، كالسياسات القديمة على مدى عقود، وعلى مدى أجيال”. وإذا كان “معظمنا يفترض أن الحرب والحصار والإرهاب هي المسببة للوضع الراهن وهذا صحيح، لكنه غير كاف”. و”علينا أن نبحث في عمق توجهاتنا الاقتصادية التي اتبعناها على مدى … أكثر من ستة عقود، أو سبعة عقود، … فهل كانت تلك التوجهات مناسبة لمجتمعنا؟ … هل كان ممكناً تلافي تلك السلبيات بتلك السياسات نفسها التي كانت قائمة في ذلك الوقت؟ وأسئلة كثيرة على هذا المنوال؟”.

لم يقفز الكلام أو التحليل إلى الأمام ولم يقدم وعوداً بالتغيير، بل تحدث عن الشروط الموضوعة والذاتية للتغيير.

يقول: “مع تغير العالم، ومع تبدل قواعد الاقتصاد في العالم والسياسة والأمن والثقافة، كل شيء تغير، لا شيء يشبه ما كان موجوداً، هل من الممكن لسياسة ما ولو كانت صائبة أن تكون صحيحة كل هذا الزمن”؟ و”هل نستطيع اليوم أن نقوم بالتغيير نفسه أم تأخرنا، هل علينا أن نغير السياسات، نعدل بها؟ أسئلة كثيرة يجب أن نناقشها في مجلس الشعب وفي سورية بشكل عام”؟

ينطوي الخطاب السياسي على أجندة كبيرة ومعقدة، تتطلب من فواعل السياسة وبيروقراطية الدولة، وبالطبع فواعل الفكر والاجتماع والاقتصاد والثقافة والقيم…إلخ همة كبيرة، ليس من المعروف كيف وقعت على أفهامهم ومداركهم، ولا كيف سوف يتدبرونها أو يتعاطون معها، وهل يمكنهم ذلك حقاً، في ظل الإمكانات المعرفية والرمزية والإمكان المادية، والظروف الراهنة في البلاد والإقليم والعالم؟

إن السياسي لا يلعب لعبة منفردة، ثمة لاعبون كثر، وإن فضاء الحدث غير مستقر على قراءة واحدة. ثمة قراءات (وبالطبع رهانات) كثيرة. والقراءات قد لا تكون مطابقة أو قريبة من الواقع، ومنها ما لا يملك معقوليته أو صلاحيته العملية ليصير واقعاً…إلخ، لكن المهم التحلي بالعقلانية والموضوعية، والأهم هو الهمة على التفكير والفعل.

وفي الختام،
إن الحل ليس مجرد فكرة في ذهن السياسي، مهما كانت واقعية وتغييرية وإبداعية، وهي قطعاً بحاجة ماسة لذلك، وليس مجرد “خطة إجراءات” لدى “فواعل تنفيذية”: حكومية أو إدارية أو حزبية…إلخ، وإنما هو -قبل كل ذلك- قراءة خريطة المعنى والقوة في الواقع، وتحولاتها ورهانات الفواعل والأطراف، واتجاهات التقدير والفعل لديها. والتحلي بالهمة والشجاعة على تسمية الأمور بأسمائها. وهذا ما كان في جوانب كثيرة من الخطاب، الذي لم يتم تلقيه بالشكل المطلوب أو المتوقع من قبل من توجه إليهم أو من قبل “الأجهزة الإيديولوجية للدولة”.

والأهم في هذه المرحلة أن يقوم التفكير بالحل على “تغيير للنمط”، أي تغيير التفكير تغييراً واعياً ومطابقاً وحركياً. والبحث عن “الإمكان الذي يمكن وعيه”، والذي يمكن الدفع به وتحويله إلى “فكرة” في “فضاء المعنى” أو “حس مشترك” في المجتمع والدولة، ثم الدفع لتحويله إلى واقع.

الدكتور عقيل سعيد محفوض

اقرأ أيضاً