خاص|| أثر برس المقولات المقبولة عموماً في عالم السياسة أن كل مساعدة مالية هي استثمار طويل الأمد، ولا شيء مجانياً، مع إقرارنا بوجود استثناءات قليلة، وهذا يطرح بطبيعة الحال سؤالاً عن الجدوى التي يتأملها الحلف الغربي من الدعم الكبير الذي يقدمه لأوكرانيا، سواء على شكل منح مالية أو قروض، وكيف ستتمكن أوكرانيا من تسديد هذا الدين؟
وكان رئيس الوزراء الأوكراني دنيس شميكال، قد كشف في السادس من كانون الأول الفائت، أن كامل الضرائب، التي تجنيها الدولة، تذهب إلى المجهود الحربي، وأن ثلثي هذه المبالغ يتم تحويلها إلى رواتب العسكريين، وكان وزير المالية الأوكراني سيرغي مارشينكو، قد أوضح أن ثلث نفقات الميزانية يتم تسديدها من الإيرادات، أما الثلثان الباقيان فيتم تسديدهما من المانحين والدائنين الأجانب، وهذا يعني أن نظام كييف يتبنى سياسات تفوق قدراته الاقتصادية، ولا شك أن سيادته ومستقبل أجياله اللاحقة سيكونان مرهونين لتسديد هذه الأثمان كلها.
وتشير تقارير إعلامية صادرة من معهد اقتصاد العالم، ومركزه في كييف، إلى وجود تخمينات تفيد بأن عدد الدول المانحة لأوكرانيا يقارب الأربعين، وهي الولايات المتحدة وأوربا، ودول حليفة لواشنطن مثل كوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزلندا. وهناك قروض مترتبة على كييف بحوالي 22.5 مليار دولاراً للدول التي تحصل على أسهم يوروبوند منها، وهي عبارة عن قروض تكون مستوفاة بشكل كامل في 2035 على شكل دفعات سنوية، أكبرها عام 2024. ويظهر أن هناك ميلاً لمحاولة الحصول على قروض إضافية بهدف تسديد الدفعات المترتبة على القروض الأولى.
وتعتبر واشنطن هي المقرض والمانح الأول لأوكرانيا بما يقارب ضعف بقية المانحين الآخرين متجمعين، وهي بالتالي المكان الذي ستتحدد فيه معايير معيشة الأوكران وشروط معيشتهم في السنوات المقبلة. فقد قدرت مساعداتها المادية، خلال العام المنصرم، بحوالي 27.6 مليار دولاراً كمساعدات عسكرية و9.5 مليار دولاراً كمساعدات إنسانية و15.2 مليار دولاراً كمساعدات مالية، والمجموع 52.3 ملياراً تقريباً. ويُعتقد أن هذا الرقم يعادل 0.2 % من الدخل القومي القائم. ونلاحظ سلوكاً مشابهاً لمساعدات وقروض الولايات المتحدة الأمريكية في أكثر الدول عدوانية اتجاه روسيا وأشدها ميلاً للعسكرة ضدها؛ فهي تعادل 0.9 % من الدخل القومي القائم لليتوانيا، و0.8 % لأستونيا، و0.5 % لبولونيا.
المانحون بدأوا بتغيير سياستهم:
إطالة أمد الاشتباكات أجبر المانحين على تغيير سياساتهم اتجاه أوكرانيا. وأشارت صحيفة “لوس أنجلوس تايمز” في أواخر تشرين الثاني الفائت، إلى “عدم عدالة النفقات التي تتحملها الولايات المتحدة” مشيرة إلى أن الدعم الأطلسي لأوكرانيا، وحتى مع الأخذ بعين الاعتبار المساعدات، التي قدمتها بعض دول الحلف، وعلى رأسها إنكلترا التي قدمت منفردة حوالي 1.5 مليار دولار، هي بالأساس عملية خاصة أمريكية. ويتوقع نظام كييف مساعدات أوربية بقيمة 18 مليار دولار، فالاتحاد الأوربي بات يشعر بالقلق من موجات هجرة الأوكرانيين إلى أراضيه، وخاصة في حال انهار نظام الطاقة الأوكراني، كما يخشى الاتحاد الأوروبي من عدم قدرته على استيعاب موجات النزوح هذه ومن أنه سيضطر لتخصيص مبالغ أكبر للنازحين، الذين باتوا مشكلة بالنسبة لهم منذ الآن.
إن أغلب المبالغ التي حصلت كييف عليها هي قروض مستحقة الدفع، ورغم أنها نجحت بإقناع المانحين على إعفائها من الفوائد فإن مقدار القروض بات يشكل 65 % من إجمالي ناتجها القومي بحلول شهر تشرين الثاني، وتتوقع بعض التحليلات أن تجتاز القروض الناتج القومي في غضون أشهر أو أسابيع، ويبدو أن حكومة زلنسكي تفكر في توزيع مبلغ الدفعات المترتبة على مواطنيها بالتساوي، بل ويضيف البعض أن الأطفال غير البالغين قد يتحملوا نسبة من ذلك، وفي هذا الظرف سيكون هناك تضاؤل مريع في مقدار النفقات التي تتحملها الدولة، وحتى في مجال الغذاء والضروريات.
وكانت هناك تقديرات سابقة بأن كل مواطن أوكراني يتحمل أساساً ديوناً بسبعة آلاف دولار. غير أنه عند احتساب نسبة النزوح الضخمة، وفقدان البلاد لأجزاء واسعة من أراضيها والشعب الذي يقطنها، يقدر بعض الخبراء أنه يقع على عاتق كل مواطن 14 ألف دولار وسطياً.
هذا يعني أنه على الرغم أن واشنطن خططت لإطالة أمد الاشتباكات في أوكرانيا عل هذا يستنزف الاقتصاد الروسي، ورغم أنها نجحت في مسعاها إلى حد ما، فإن أوكرانيا تحولت إلى ما يشبه ثقباً أسود يسحب القدرات الاقتصادية والمالية للحلف الغربي دون أفق قريب لوضع تتمكن فيه كييف من سداد ما يترتب عليها. ولهذا فإن المحتمل في المستقبل غير البعيد أن تجري دول التحالف الغربي مراجعة لنفسها، وتتساءل إلى متى ستتحمل هذه الخسائر، وما إن كان رهانها هذا صحيحاً أصلاً.
وحين تقرر أن استثمارها في الأزمة الأوكرانية خاسر حينها سيتغير الكثير على وجه الأرض، سيدخل بوتين التاريخ لا كرجل أعاد لملمة ما تناثر من حطام بلاده فحسب، بل كرجل غلب التحالف الغربي في لعبته المفضلة وهي الاستنزاف.
سومر سلطان