خاص|| أثر برس تحولت سوريا من دولة تمتلك فائض من القمح بإنتاج يصل إلى 4 ملايين طن سنوياً يصدر منها 1.5 مليون طن، إلى دولة تجتهد لتأمين حاجتها من المادة، إذ تراجع الإنتاج بشكل متسارع منذ بداية الحرب، خاصةً بعد خروج مساحات كبيرة من الأراضي التي كانت تزرع بالقمح عن سيطرة الحكومة، إضافةً إلى عوامل مناخية، وافتعال حرائق طالت مساحات كبيرة من الأراضي المزروعة.
وتستهلك سوريا 2.5 مليون طن من القمح سنوياً، بحسب تقديرات سابقة، العام الفائت شهدت البلاد أزمة خبز حادة مع معاناة البلاد من نقص حاد بمخزون القمح، ما دفع وزارة الزراعة للتفكير بزيادة الكمية المؤمنة محلياً مطلقةً على العام الحالي شعار “عام القمح”، حيث دعت الفلاحين إلى استثمار “كل شبر” في زراعة القمح، وبحسب خطة الوزارة سيكون الإنتاج نحو مليون و200 طن، إلا أن حسابات البيدر لا تتطابق مع حسابات الحقل، والناتج لم يكن كما هو متوقع ما دفع الوزير حسان قطنا للقول مؤخراً إن الإنتاج الحالي للمحصول مقبول، لكنه لا يكفي كامل الاحتياجات، مرجعاً السبب إلى “الجفاف الذي لم تشهد سوريا مثيلاً له منذ 1953، إضافةً إلى التغيرات المناخية من ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض المياه”.
بين الواقع والتقدير-سباق على شراء المحصول
تتقاسم الدولة السورية و”قسد” والفصائل المسلحة التابعة لقوات الاحتلال التركي مناطق إنتاج القمح، وإن كانت الغلبة لـ “قسد” التي تجبر الفلاحين على بيع محاصيلهم لمراكزها حصراً في أرياف الحسكة والرقة ودير الزور، وهي أهم المناطق الزراعية في البلاد، إضافةً إلى منع الشاحنات المحملة بالقمح من الوصول إلى مراكز الحكومة السورية.
في مثل هذا الوقت من العام الماضي كانت المؤسسة السورية للحبوب في مدينة القامشلي قد استلمت كمية 10 آلاف طن من القمح لكن الكمية في هذا العام، بحسب ما أكده مدير المؤسسة عبد الله عبد الله لـ “أثر” لم تزد عن 418 طناً فقط، وهي من إنتاج مؤسسة الثروة الحيوانية، فيما لم يتمكن أي فلاح من الوصول بمحصوله إلى مراكز الحبوب الحكومية بسبب قطع “قسد” للطرقات أمام حركة الشاحنات.
ويضيف عبد الله أن الكمية الواردة في تقديرات وزارة الزراعة 300 ألف طن وجميع هذه الكمية هي خارج مناطق سيطرة الدولة، في حين لا يوجد توقعات بزيادة الكمية التي تم استلامها سابقاً، خاصةً وأن الموسم كان ضعيف نتيجة الجفاف، إضافةً إلى أن “قسد” لا تسمح بدخول أي حبة قمح إلى المؤسسة، لافتاً النظر إلى أن الإنتاج في السنوات السابقة كان يتراوح بين مليون ومليوني طن.
ويتابع مدير المؤسسة في القامشلي “إنتاج القمح في منطقة الجزيرة يمثل 60% من إنتاج سوريا ككل”، ويشير إلى أننا أمام مشكلة كبيرة، فالكمية الموجودة سابقاً في مخازن المؤسسة فرع القامشلي تبلغ 70 ألف طن، وهي لا تكفي سوى لـ 5 أشهر لتغطية منطقة القامشلي فقط.
تقول مصادر كردية أيضاً إن “قسد” لم تستلم أكثر من 20 ألف طن حتى الآن، برغم تسعيرها للطن بـ مليون و150 ألف ليرة سورية، إذ يعمل تجار مرتبطين بها على شراء كميات من القمح بسعر 320 دولاراً أمريكياً للطن، ليصار لتهريبه إلى إقليم شمال العراق والمناطق التي تسيطر عليها قوات الاحتلال التركي، من ريف محافظتي الحسكة والرقة، فالسعر العالمي لطن القمح يصل لـ 600 دولار أمريكي.
في محافظة الرقة يختلف الأمر نسبياً، ففي الريف الخاضع لسيطرة الدولة السورية من المتوقع أن يتم استلام كمية تتراوح بين 40-45 ألف طن من القمح عبر المؤسسة السورية للحبوب، وبحسب ما أكده مدير المؤسسة جورج كبة لـ “أثر برس” فقد بدأ التسويق في 25 أيار الفائت وتسلمت حتى يوم أمس كمية تزيد عن 9 آلاف طن، وبدأ خلال الأيام الماضية ارتفاع معدل الاستلام اليومي ومن المتوقع أن يصل إلى 1500 طن يومياً حتى نهاية الموسم، في حين كانت الكمية الإجمالية العام الفائت 27237 طن.
لكن المساحات المزروعة بالقمح المروي في ريف الرقة الخارج عن سيطرة الدولة لهذا العام مقسومة على اثنين، فما تسيطر عليه “قسد” لم يزد إنتاجه حتى اليوم عن 15 ألف طن وتقدر كمية الإنتاج العام في هذه المناطق بنحو 250 ألف طن، في حين أن ما تحتله القوات التركية في الريف الشمالي (تل أبيض وما يتبع لها)، لن يزيد إنتاجه عن 35 ألف طن في أحسن الأحوال، ويشتري التجار هناك الطن بحوالي 300 دولار أمريكي ليتم تهريبه إلى تركيا لاحقاً.
تشير مصادر خاصة لـ “أثر برس”، إلى أن التقديرات الحكومية لإنتاج القمح المروي في محافظة الحسكة لهذا العام لن تزيد عن 300 ألف طن، مقارنةً مع 850 ألف طن في العام الماضي على الرغم من الحرائق التي طالت ما يزيد عن 35% من المساحات الزراعية قبل حصادها.
أما باقي المناطق السورية، فتشير التقديرات الحكومية التي حصلت عليها “أثر” إلى أن إنتاج طرطوس من القمح نحو 26 ألف طن، أما في حمص فمن المتوقع أن يصل إلى 44 ألف طن مروي و25 ألف طن بعل، مع تأكيدات أن موسم القمح البعلي كان دون الوسط متأثراً بقلة الأمطار وتأخر وصول مياه الري للمروي، إضافةً عدم توافر الأسمدة والمازوت، في حين تسير عملية تسليم القمح إلى المؤسسة الحبوب بشكل جيد.
آخر هموم قسد
يؤكد مصدر صحفي كردي أن “قسد” لن تذهب نحو شراء القمح من خارج الأراضي السورية، إذ أن حاجة الأفران من الدقيق التمويني تصل عبر الحكومة السورية التي التزمت بتأمين الخبز للمواطن حتى في مناطق انتشار “قسد”، في حين أن الأفران السياحية التي تحتاج لنوعية عالية الجودة من القمح تحصل عليه من خلال تجار مرتبطين بـ “قسد”، ويعملون لـ صالحها.
وفي وقت تشير المعلومات التي حصل عليها أثر برس فإن مؤسسة إكثار البذار في محافظة الحسكة تعاقدت على إنتاج 4 آلاف طن، تكفي احتياجات المحافظة للعام القادم من البذار، بينما أنتجت نظريتها في الرقة 800 طن في مناطق الريف المحرر، وتقدر الكمية التي ستحتاجها المحافظة من البذار خلال العام القادم بـ 2000 طن، ولم يحدد سعر المبيع حتى الآن، لكنه سيكون متناسباً مع القدرة الشرائية للفلاح في بداية الموسم.
وتقول مصادر “أثر برس”، إن الإتجار بالبذار يعد من الأنشطة التي تمارسها “قسد”، بشكل ربحي لا كما تفعل الحكومة السورية من خلال المؤسسة العامة لإكثار البذار، وغالباً ما يتم بيع القمح في بداية الموسم بسعر يربطه تجار السوق السوداء بسعر صرف الدولار الأمريكي، في حين يعمد الفلاحين لتخزين ما يحتاجونه من بذار من إنتاجهم قبل شحنه للأسواق.
موسم القمح بلا حرائق
فرضت قضية الحرائق المفتعلة للمحاصيل الزراعية نفسها على مدار السنوات الثلاث الماضية، نتج عنها التهام مساحات كبيرة من محاصيل القمح، إلا أن المشهد تبدل هذا العام فقد انحسرت رقعة الحرائق في نطاق محدود هذا العام.
تحدث وزير الزراعة السوري قبل أسبوع أنه نشب خلال هذه الفترة 52 حريقاً، ولكنها كانت في مساحات محدودة وكان التدخل فوري ومباشر، وتم القبض على 6 أشخاص في محافظة حماة يشتبه أنهم يقومون بافتعال هذه الحرائق.
أما في المنطقة الشرقية لم يسجل إلا حريق واحد في مساحات القمح والشعير لهذا العام، والحريق ناتج عن إطلاق الفصائل الموالية لتركيا رصاصاً متفجراً على أراضٍ تقع غرب مدينة “تل أبيض”، لكن السبب الأساس في عدم تسجيل حرائق يعود لقيام أصحاب الأراضي المزروعة بعلاً ببيع الموسم قبل حصاده لأصحاب المواشي، فتحولت هذه المساحات إلى مراعٍ بسبب تلف المحصول بعد موسم متدن من الأمطار.
حجم الإنتاج المحلي
إذا جمعنا كامل الإنتاج الواقع ضمن سيطرة الدولة لن تتجاوز كمية القمح المتوقع تسلمها 350-500 ألف طن، في حين تشكل محافظات دير الزور والرقة والحسكة وريف حلب، التي تعد أغلبها تحت سيطرة “قسد” من طرف إضافةً إلى فصائل المعارضة التابعة للقوات التركية، مناطق إنتاج القمح في سوريا.
لذلك يشدد مدير فرع المؤسسة السورية للحبوب في مدينة القامشلي عبد الله عبد الله على أن الحل الوحيد للحصول على كامل الكمية المزروعة هو بسط الدولة سيطرتها على كل الجزيرة السورية لتتمكن المؤسسة بدورها من العمل وتأمين متطلبات السوريين.
ويتحدث مدير فرع المؤسسة في الرقة أن أهم المشاكل التي تواجهها المؤسسة حالياً تتمحور في عدم وجود المازوت لسيارات الشحن، خاصة وأنه بالتوازي مع عملية الشراء ينبغي شحن المخزون لكي تواصل الصومعة عملها.
الاحتياطي المستورد
تعدّ روسيا -أكبر مصدر للقمح في العالم ومورّداً دائماً للقمح إلى سوريا، لكن حجم مساعدات القمح الروسي لا يلبّي كل طلب البلاد، فقد زودت روسيا سوريا بنحو 350 ألف طن من القمح منذ آذار الماضي، في حين تؤكد تصريحات روسية أن التوريدات الإضافية ستصل إلى مليون طن من الحبوب، حتى نهاية العام الحالي.
وفي حساب بسيط نجد أن كميات القمح المنتجة محلياً والاحتياطي المستورد المعلن عنه لا يغطيان حاجة البلاد من المادة، ما ينذر بخطر يهدد الأمن الغذائي للسوريين مع نقص بأكثر المحاصيل المعتمد عليها، فما هي المساعي التي ستتبعها الحكومة لتتحدّى أزمة تأمين الخبز ومن وراءها نقص القمح؟
حنان صندوق