زياد غصن ـ خاص|| أثر برس
خلت المبررات التي قدمتها الحكومة، والمتعلقة بالأسباب التي دفعتها مؤخراً إلى رفع سعر مادتي المازوت والبنزين، من أية تقديرات إحصائية عن الإنعكاسات الإقتصادية المرتقبة لهذا القرار على مستوى التضخم وتكاليف الإنتاج في مختلف القطاعات الأساسية. ليس لأنها لا تملك تلك التقديرات، وإنما لأنها لا تريد أن تفتح على ما يبدو سجالاً حولها، لاسيما وأن هناك تجربة سابقة ثبت فيها تقديم وزارة التجارة الداخلية أيام الوزير السابق لبيانات غير صحيحة حول ما تشكله تكلفة مادة المازوت من نسبة لإجمالي تكاليف عملية النقل، وذلك بغية تمرير قرار رفع سعر مادة المازوت المخصصة للتدفئة والنقل آنذاك من حوالي 180 ليرة لليتر الواحد إلى 500 ليتر، أي بما نسبته حوالي 177%.
في محاولة لتتبع تأثيرات رفع سعر مادة المازوت يجب التمييز بين حالتين: الحالة الأولى تتعلق بتأثيرات رفع سعر المادة وفقاً لما نص عليه قرار وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك، أما الحالة الثانية فهي تتعلق بارتفاع سعر المادة في السوق السوداء، لاسيما في ضوء عدم قدرة الحكومة على توفير المادة بالسعر الرسمي، وتالياً اضطرار معظم الفعاليات الإنتاجية والخدمية إلى تأمين احتياجاتها من السوق السوداء.
بالسعر الرسمي
في تفاصيل الحالة الأولى، تشير نتائج الدراسات الخاصة التي أجرتها وزارة النفط والثروة المعدنية، وحصل موقع “أثر برس” على بعض نتائجها، إلى أن احتياجات البلاد من مادة المازوت قبل الأزمة الأخيرة تبلغ حوالي 8.5 ملايين ليتر يومياً، خصص منها حوالي 13.7% للقطاع الزراعي، لكن عملياً ووفقاً للكميات المتاحة من المادة، فإنه لم يتم توزيع إلا 6 ملايين ليتر يومياً، وتالياً فإن القطاع الزراعي لم يحصل منها إلا على 7%.
بناء على ذلك، فإن المزارعين سيكونون مضطرين إلى دفع زيادة قدرها 85 مليار ليرة سنوياً، فيما لو جرى لاحقاً توفير مخصصات القطاع وفقاً للدراسة السابق ذكرها وبالسعر المدعوم 700 ليرة، أما إذا ظلت الكمية الموزعة لا تتجاوز 7% فإن الزيادة التي ستحلق بالمزارعين ستكون بحدود 48 مليون ليرة يومياً وحوالي 30.6 مليار ليرة سنوياً.
أما في القطاع الصناعي، فإن المعلومات الخاصة تشير إلى أن كميات المازوت التي تباع بالسعر الحر تشكل 15% من إجمالي الكميات الموزعة قبل الأزمة البالغة 6 ملايين ليتر يومياً، وهذه بالطبع مخصصة وفق ما هو معلن للأغراض الصناعية، وتالياً فإن الزيادة التي سيتحملونها جراء رفع سعر المادة من 2500 إلى 3000 ليرة ستكون بحدود 450 مليون ليرة يومياً، أي ما مقداره سنوياً 164 مليار ليرة.
لكن لا يمكن حصر تأثيرات زيادة سعر مادة المازوت فقط بالزيادة التي يضطر المزارعون والصناعيون إلى دفعها عند استجرار هم ما يتاح لهم بالسعر الرسمي، فهناك جوانب أخرى للزيادة منها:
-مستلزمات الإنتاج والمواد الأولية التي سترتفع تلقائياً أيضاً جراء ارتفاع تكلفة ما تشكله مادة المازوت، سواء المنتجة محلياً أو المستوردة.
-أجور النقل التي ستزداد هي الأخرى، وهي متشعبة ولا تقتصر فقط على نقل المنتجات إلى الأسواق وتوزيعها، وإنما تشمل كذلك أنشطة مختلفة كنقل المواد الأولية، العاملين، وغير ذلك.
هنا تبدو جميع الحسابات الحكومية والبحثية الخاصة مجرد افتراضات نظرية ما دامت المادة غير متوفرة وفقاً لاحتياجات البلاد، والأهم أن تواتر ضخها في الأسواق المحلية غير منتظم، وهو ما يجعل من تلك الحسابات في واد وما يتحقق فعلياً في واد آخر. وهذا يقودنا إلى الحالة الثانية المتمثلة في تأثيرات الزيادة الأخيرة على أسعار السوق السوداء التي باتت للأسف مقصداً للعديد من المزارعين والصناعيين بغية المحافظة على الحد الأدنى من الإنتاج، وعدم ضياع سنوات من التعب والجهد والمال.
السوق السوداء حاضرة
على خلاف الشائع والمتداول، فإن ما هو متوفر في السوق السوداء من مادة المازوت ليس بذلك الحجم الذي يمكنه من تغطية احتياجات جميع القطاعات الإقتصادية، وما يزيد غموض هذا الملف أنه ليست هناك تقديرات أولية حول حجم السوق السوداء لمادة المازوت. ومع ذلك يمكن القول: إن هناك كميات لا بأس بها تجد طريقها إلى المزارعين والصناعيين والحرفيين. وللأسف مع قرار زيادة سعر مادة المازوت رسمياً والنقص الشديد في الكميات المطروحة في السوق المجلية بفعل الأزمة الأخيرة، فقد ارتفع سعر الليتر الواحد في السوق السوداء من حوالي 6 آلاف ليرة إلى 10 آلاف ليرة.
إذا اعتبرنا أن السوق السوداء توفر فقط 10% من الكميات المخصصة للقطاع الزراعي قبل الأزمة الأخيرة، أي ما مقداره 100 ألف ليتر يومياً في عموم مناطق البلاد، فهذا يعني أن المزارعين تحملوا مع قرار رفع سعر مادة المازوت رسمياً زيادة قدرها 434 مليون ليرة جراء رفع السوق السوداء أيضاً لأسعارها، وعلى هذا فإن استمرار الأزمة يحمل المزارعين زيادة شهرية قدرها ما يزيد على 13 مليار ليرة.
وبحسب ما يؤكد الباحث الزراعي أكرم عفيف فإن “سعر ليتر مادة المازوت لم يرتفع من 2500 إلى 3000 ليرة لليتر الواحد، وإنما فعلياً ارتفع من 6 آلاف ليرة إلى 10 آلاف ليرة، فهكذا كان يشتريه الفلاح وهكذا أصبح يشتريه اليوم. فمثلاً الجرارات ليس لها مخصصات، كذلك الأمر بالنسبة للسيارات، الآبار الارتوازية، محطات الضخ الصغيرة وغير ذلك. لذلك يضطر المزارع إلى شراء المازوت من السوق السوداء، فما يوزع من مازوت للأغراض الزراعية ليس كافياً لا بل أنه أحياناً شكلياً. ويضيف في تصريح خاص لـ”أثر برس” أن “الحل يكمن في اعتماد الحكومة لثلاثة أسعار لمادة المازوت: سعر مدعوم، سعر تكلفة، وسعر رابح لكن شريطة توفير المادة. وعندئذ سوف تربح الحكومة منا نحن المزارعون، وللعلم مثلاً فإن حوالي 90% من احتياجات سهل الغاب من المحروقات يجري تأمينها من السوق السوداء. تخيلوا أن هناك فارقاً كبيراً بين السعر الرسمي وسعر السوق السوداء يذهب في النهاية إلى تجار السوق السوداء”.
لا يختلف الوضع في القطاعات الإنتاجية والخدمية الأخرى، فالقطاع الصناعي ونتيجة محدودية الكميات التي يتمكن الصناعيون من الحصول عليها بالسعر الرسمي، فإن معظمهم يضطر إلى توفير بعض احتياجاته من السوق السوداء، ومع النقص الحاصل في المادة خلال الأسابيع الأخيرة زادت أسعارها في السوق السوداء بشكل مضاعف عما كانت عليه سابقاً وهذا يعني قسراً زيادة التكاليف.
المعادلة بسيطة
باختصار يمكن القول إن زيادة سعر مادة المازوت رسمياً قبل ضمان توفيرها في السوق المحلية للاستخدامات المختلفة سمح للسوق السوداء أن تعظم من أرباحها وتراكم من ثروات تجارها على حساب لقمة الناس والأداء الاقتصادي في البلاد. وإذا بقيت القطاعات الإقتصادية مضطرة للسوق السوداء خلال الأشهر القادمة نتيجة محدودية الكميات المطروحة للاستهلاك، فهذا يعني بوضوح تام أن ما حققته الحكومة من إيرادات جراء رفع سعر مادة المازوت سوف تقابلها خسارة أكبر تتمثل في ارتفاع تكاليف الإنتاج وتقديم الخدمات وزيادة معدل التضخم الذي سرعان ما تبدت ملامحه في الأسواق المحلية.