زياد غصن || أثر برس تلتقي الرواية الحكومية مع تحليلات الاقتصاديين على أن الغلاء الذي تعاني منه البلاد بشكل جامح منذ سنوات عدة، هو غلاء تكلفة في المقام الأول، لكن الخلاف بين الطرفين يكمن في تركيز كل منهما على الأسباب المؤدية إلى ارتفاع التكاليف، ففي الوقت الذي تركز فيه الحكومة على تأثيرات الغلاء العالمي، يصر الاقتصاديون على ضرورة الاعتراف بالأسباب المحلية، التي تصب مزيداً من “الزيت على نار الغلاء المتأتي من الأسواق العالمية”، والمتعلقة بالتكاليف الناجمة عن شيوع ظاهرة الاحتكار، إجراءات تأمين القطع الأجنبي، الرسوم المنظورة وغير المنظورة التي تدفع منذ بدء عملية تخليص المستوردات وحتى وصولها إلى وجهتها النهائية، وما إلى ذلك.
في سوريا، وعلى خلاف معظم دول العالم، فإن ظاهرة ما يمكن تسميته بـ”الغلاء المستورد” لم يكن حاملها الأساس فقط ما شهدته الأسواق العالمية من موجات ارتفاع في أسعار جميع السلع والبضائع جراء أسباب عديدة، وإنما كذلك محدودية الخيارات المتاحة أمام التجار السوريين لتأمين السلع والمواد المراد استيرادها في ضوء العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة على البلاد، و”الامتثال المفرط” من قبل الشركات والمؤسسات العالمية التي تتحاشى تصدير سلعها إلى الأسواق السورية خشية النقمة الأمريكية عليها، وهذا ما جعل دمشق تستدير نحو أسواق الدول المساندة لها أو التي لايزال يحافظ التجار السوريون على علاقات مع شركاتها ومؤسساتها، وتالياً فقد كان من الطبيعي أن تتأثر الأسواق المحلية مباشرة بما تشهده الأسواق الموردة لها من غلاء وتضخم.
غلاء المستوردات بالأرقام:
تمثل المستوردات الدالة الرئيسية التي يمكن من خلالها قياس مدى تأثر الاقتصاديات الوطنية بالمتغيرات التي تطرأ على الأسواق العالمية من ناحية، وعلى الأسواق القطرية للدول من ناحية أخرى، وبحسب ما تشير البيانات الإحصائية لوزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية حصل “أثر برس” عليها، والمتعلقة بمستوردات عشر سلع أساسية جرى اختيارها بحيث تعكس إلى حد ما تركيبة المستوردات من سلع غذائية وغير غذائية، فإن هناك زيادة واضحة في متوسط قيمة مستوردات الطن الواحد بين عامي 2021و2022، وبنسب مختلفة بين سلعة وأخرى.
فمثلاً تظهر البيانات المشار إليها إلى أن متوسط قيمة مستوردات الطن الواحد من مادة الأرز ارتفع من حوالي 569.26 يورو في العام 2021 إلى حوالي 779.13 يورو في العام 2022 أي بنسبة زيادة قدرها 36.86%، كذلك الأمر بالنسبة للسكر الذي ارتفع بنسبة 40% خلال الفترة المدروسة، زيت دوار الشمس الخام 78.58%، الذرة الصفراء 18.76%، والحليب المجفف 5.2%.
أما بالنسبة للسلع غير الغذائية فقد شهدت هي الأخرى زيادة في متوسط قيمة الطن الواحد من قبيل الحبيبات البلاستيكية التي زادت بنسبة 30.23%، الزيوت والشحوم 39%، الخيوط 7%، والأقمشة 15.13%، لكن هناك بعض السلع وإن كانت قليلة العدد إلا أنها شهدت تراجعاً لجهة متوسط قيمة الطن المستورد وهو أمر يتوجب على المؤسسات المعنية دراسة أسباب محافظة أسعارها على وضعها أو حتى تعرضها للزيادة كصفائح الحديد، التي تشير مستوردات البلاد خلال العامين المذكورين إلى تراجع متوسط قيمة الطن الواحد بنسبة 4%، وهو ما قد يتطلب العودة إلى تفاصيل الأنواع المستوردة تحت هذا البند للوقوف على حقيقة ذلك الانخفاض.
المؤشر الآخر الذي يمكن الاستعانة به لبيان حقيقة مدى وحجم تأثر البلاد بالغلاء العالمي والقطري يتمثل في تركيبة الدول الموردة لسوريا، والتي لايزال عددها كبيراً نوعاً ما رغم الضغوط الغربية والعقوبات المفروضة، وهذا أمر ينظر إليه الاقتصاديون من وجهات نظر مختلفة، فالبعض يعتبره إيجابياً لجهة تمكين البلاد من المفاضلة أثناء محاولتها تأمين احتياجاتها، وهناك من يقول إن الانفتاح له ضريبة كبيرة وتتمثل في التأثر المباشر بأي هزة تحدث في هذا البلد أو ذاك.
وإذا ما عدنا إلى سجلات وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية لعام 2022، سنجد مثلاً أن عدد الدول التي جرى استيراد مادة الحبيبات البلاستيكية منها وصل إلى 32 دولة تصدرتها السعودية، الصين، ثم تايوان، أما الدول التي جرى استيراد الأقمشة منها فقد بلغ عددها حوالي 30 دولة، جاءت الصين في صدارة القائمة، ثم مصر ثانياً، فالهند ثالثاً، وحافظت الصين على صدارتها للدول المصدرة للخيوط إلى سوريا والبالغ عددها 27 دولة، فالهند ثانياً، ومصر ثالثاً، ويتراجع عدد الدول الموردة للحليب المجفف ليصل إلى 15 دولة تأتي في مقدمتها إيران، نيوزيلندا، بيلاروسيا، وإلى حوالي 3 دول فقط بالنسبة لمستوردات البلاد من مادة الأسلاك النحاسية.
ويمكن في هذا السياق الإشارة إلى بعض البيانات المتعلقة بمعدلات التضخم الإجمالي المسجلة عام 2022 في بعض الدول الموردة لسوريا، فمثلاً بلغ هذا المعدل في الصين حوالي 2%، السعودية 2.5%، إيران 45.8% وفقاً للتقويم المحلي، مصر 21.3%، والهند 5.88% .
ليس تبريراً لتوحش الغلاء:
الحديث عن “الغلاء المستورد” ليست غايته تبرير ظاهرة الغلاء الحاصلة في الأسواق المحلية أو القبول بها، وإنما محاولة عزل العوامل الموضوعية عن غيرها من العوامل والأسباب التي يفترض دراستها بشفافية وموضوعية بغية معالجتها والحد من تأثيراتها على ارتفاع أسعار السلع والخدمات في الأسواق المحلية، وإعادة النظر كذلك بتركيبة الدول الموردة للسلع والبضائع، بحيث يمكن البحث عن مصادر أخرى لبعض تلك السلع تكون أرخص وأقل تكلفة مع ضمان استدامة عمليات التوريد، وهذه مهمة مشتركة بين الحكومة بوزاراتها ومؤسساتها المعنية وبين المستوردين بمختلف شرائحهم.