خاص|| أثر برس ربما تستغرب عند دخولك مدينة حلب بعد الزلزال من طبيعة المشهد، ففي البداية لن ترى ما يوحي أن هذه المدينة منكوبة، لكن بعد أمتار قليلة ستبدأ مشاهدة خيام وعوائل تفترش الطرقات، وجوامع مكتظّة بالمقيمين.
بدأنا التجول بين هذه المشاهد متأملين الوجوه، والتقينا بأحد مقيمي مراكز الإيواء وهو رجل سبعيني خسر بيته بالكامل، اقتربت منه ورأيته سارحاً بخياله متكئاً على كرسي أمامه وكأن رأسه مليء بالأفكار والذكريات، ولعل أكثر فكرة تدور في ذهنه هي كيف يمكنه أن يبدأ من الصفر وهو في عقده الثامن، هذا الرجل بمجرد أن رأى الكاميرا أدار ظهره ورفض التصوير قائلاً: “أمورنا كلها تمام ومو ناقصنا شي”، وآخر يجلس لوحده على طرف رصيف في الشارع بيده سيجارة، يكتفي في ذلك الطقس البارد بمعطف وقبعة صوف رمادية اللون، خائف من العودة إلى منزله المتصدّع، حاولت الحديث معه فوجدت أن الزمن توقّف بالنسبة له عند تلك اللحظة التي نزل فيها مسرعاً من منزله، وبات جوابه الوحيد على أي سؤال “أكلنا رعبة ماكنة”، أما الأطفال فمجرّد أن يروا شخصاً قادماً من الخارج، يقصّوا عليه ما رؤوه أثناء الزلزال بأسلوبهم الخاص.
وعلى الجانب الآخر تجد إحدى العائلات التي تفترش زاوية من الطريق ونصبت فيها خيمتها، وجانبها موقد صغير من النار للتدفئة، وأمامها الأطفال يرتجفون من البرد في أثناء اللعب، تقول نساؤها اللواتي تجنبن الكاميرا أيضاً: “نحنا بعمرنا ما حدا شافنا بهالموقف”، وبعد دقائق من الحديث معنا اطمأنوا أن الكاميرا لن تصوّر وجوههن ولا حتى أصواتهن ستظهر، استضافونا في خيمتهن وسردت إحداهن بالحديث قائلة: “نحنا مناح بس ادعيلنا ما ينزل مطر لأنو ما في شي يجفف غراضنا”، مضيفة: “السنة الماضية صلينا صلاة الاستسقاء بس هالسنة عم ندعي ما ينزل مطر”، بينما توجّهت سيدة أخرى إلي بسؤال: “إنتي صحفية وبتعرفي.. بدو يصير زلزال تاني؟”، السؤال كان صعباً جداً لأنها تعرف أني صحافية ولست خبيرة جيولوجية لكن ارتجاف صوتها أكد أنها تريد معلومة تضفي على قلبها الأمان، ومن أي شخص كان لتستطيع أن تبدأ وزوجها من الصفر بعدما خسرا منزلهما وعملهما، فصمتُ قليلاً لأقول لها: “ياريت فيني جاوبك، بس ما تصدقي كلشي بتقري على الفيس بوك”، وخرجت من الخيمة متوجّهة إلى المناطق التي تدمرت وتصدعت الأبنية فيها والتي تركز معظمها في منطقة حلب الشرقية.
هناك المشهد مختلف تماماً فعمليات البحث عن الضحايا انتهت، باعتبار مضي أسبوع على الزلزال، أما حال الأبنية الواقفة فأكد لنا عدد من الأهالي أن معظمها متصدّعة ومهددة بالسقوط، والغريب أكثر من ذلك المشهد القاسي، كانت الحركة الطبيعية في المنطقة؛ فالمحال التي ما زالت سليمة فتحت أبوابها وعادت إلى العمل والأطفال يلعبون في الحارات وكأن شيئاً لم يكن، والنساء يتتناولن أطراف الحديث الذي بات يدور عن أوضاع منازلهن وحالتها بعد الزلزال.
هنا تبادر لأذهاننا سؤال عن التناقض بين الحديث عن الخوف من انهيار الأبنية وعودة الحركة إلى تلك الأحياء، فأجابنا رجل في العقد السابع من العمر: “لا تستغربي يا عمو هون يلي ما بيشتغل كل يوم بيومو ما بعيش والأمان بالله”، أما الرجل الأربعيني ووالد الأربعة أطفال اندفع إلينا بثيابه المغبرّة وطلب الحديث أمام الكاميرا قائلاً: “أنا مبارح هدولي بيتي وما حدا قلي لوين روح أنا وولادي صرنا بالشارع وحتى مراكز الإيواء ما ضل فيها مكان”، وأدار ظهره بعدما خنقته العبرة.
هذه الأحياء هي ذاتها التي سبق أن عاشت الحرب والمعارك وما أن استعادت أنفاسها جاء زلزال الـ7.7 ريختر، الذي دمّر ما دمّره منها، هذه الحقيقة فسّرت إلى حد ما عودة أهلها السريعة إلى حياتهم محملين بذكرياتهم التي تدور عمّا حصل والذكر الطّيب لمن توفي إثر الزلزال.
بعد ذلك حل المساء وقال لي شخص من الفريق: “بدي عرفك على بنت اسمها بيان عمرها عشر سنوات، خسرت أهلها في الزلزال وبقيت لحالها عايشه وهلا موجودة ببيت خالها”، تحمّست للقاء بيان وتوجهنا مباشرة إليها، لم نتعذّب كثيراً في معرفة المنزل الذي تسكن فيه بيان، فصوت القرآن يصدح في أرجاء الحي وجميع الأفراد هناك باتوا يعرفونها، في البداية كانت نيتي أن أنقل قصة بيان عبر الكاميرا، لكن عندما التقيت بها وجدت طفلة يبدو مظهرها أنها شخصية ميثالية لأجمل رواية، بشعرها المجدول وعينيها البريئتين والسوداوتين المليئتين بالحزن والصدمة وشعرت أنها تنظر بهما إلي وهي تقول في باطنها من هذه ولماذا أصبحت فتاة مشهورة ترغب وسائل الإعلام بالحديث معي، فبدأت بالحديث معها لكن أجوبتها المختصرة على أسئلتي التي كانت بعيدة عن الحادثة بشكل كامل، أكّدت لي أنها لا تزال غير قادرة على استيعاب حجم ما حصل فغيّرت خطتي تماماً وطلبت من المصوّرة إغلاق الكاميرا واستمريت بالحديث معها لأبعد مُحاولة إبعادها عما حصل ولو لدقائق، لكن يبدو أني فشلت حينها فشلاً ذريعاً، فسألتها عن هواياتها وقالت إنها تحب مشاهدة الصور على الهاتف الجوّال، فأكملت الحديث عن الصور التي تحبها فقالت وهي تنفجر بالبكاء: “صور ماما وبابا”، هنا شعرت بفوضى المشاعر بين الشعور بالذنب والحزن ومشاعر أخرى لم أجد لها توصيفاً.
في حلب إلى الآن أشخاص لم تصحُ بعد من صدمتها وآخرون يفكرون كيف سيبدؤون مجدداً، ومن بقي منزله واقفاً يفكّر باحتمالية سقوطه ومن وجد لنفسه مكاناً في مراكز الإيواء يبحث عن إجابة لسؤالين: “إلى متى سأبقى هنا وماذا بعد إغلاق هذا المكان؟”، وباختصار فإن فاجعة ما بعد الزلزال هي أكبر من الزلزال بحد ذاته ولن تستطع كاميرا تصويرها.
زهراء سرحان