خاص|| أثر برس ازدهرت بعد الحرب مهنة جمع التوالف والمواد المنتهية الصلاحية من المنازل أو حتى مكبات القمامة، في سوريا ومحافظة دير الزور على الخصوص، إذ باتت هذه “المهنة” مصدر رزق لمعظم العائلات ينظمّها “شيخ الكار” وتُجمع ضمن مبانٍ تسمى “الخانات” ويعمل بها النساء والأطفال وسط مخاوف من تعرّضهم لأمراض ومشاكل اجتماعية من هذا العمل.
مصدر عيش:
عوائل فقيرة أغلبها يقطن ضواحي المدن والسكن العشوائي، أطفالٌ ونساء، فتيان وفتيات، رجالٌ وشباب، صباحاً وفي المساء لجأت إلى جمع المواد التالفة، أو شراء ما انتهت صلاحيته من المنازل، ثم يحملونها لأماكن مُخصصة تُسمى “خانات” تعود لتُجار يشترونها منهم، يجمعونها، ثم تُشحن لمحافظاتٍ أخرى.
مصطفى ابن الرابعة عشرة، وجد في هذا العمل ما يسد حاجة عائلته المؤلفة من 8 أشخاص، يقول لـ “أثر”: “والدي يستأجر سيارة لنقل الحاجيات (المواد التي يتم تجميعها) مقابل أجرة تُدفع له، وبدوري أعمل أيضاً بجمع مختلف أنواع المواد التالفة، من كراتين، وعلب بلاستيكيّة، وخردة قديمة، وأكياس، حاجيات عدة، وبعد فرزها أتوجه لأحد الخانات المنتشرة في المدينة وأبيعها، وتتفاوت قيمة المبالغ التي أحصل عليها، أحياناً أيام بـ3 آلاف ليرة، وأخرى تصل قيمتها إلى 6 آلاف ليرة”، مؤكداً أنه ترك مدرسته العام الفائت، لمساعدة عائلته على تدبر أمورها المعيشيّة.
كما لجأ “م ،ي” الموظف بصفة مُستخدم في مديرية التربيّة للعمل في هذه المهنة، إذ قال: “راتب الوظيفة لا يكفي لأيام، أعمل ليلاً في جمع المواد التالفة من الشوارع، أو المحال التجارية، وحتى من الحاويات، أيام أحصل من ذلك على مقابل مالي يصل إلى 15 ألف ليرة، الصعوبة التي أواجهها هي في حمل هذه المواد بأكياس كبيرة، فلو كنت أملك آلية أو حتى عربة لخففت علي كثيراً، عائلتي كبيرة، وما أحصل عليه من هذا العمل يسدُ جزءاً كبيراً من الحاجة”.
وكذلك لا تجدُ السيدة الخمسينيّة “ر،ج” حرجاً من أن تعمل بجمع هذه المواد وبيعها لأرباب الكار، إذ قالت في حديثها لـ “أثر”: “أنا أرملة ومسؤولة عن تأمين مصروفي ومصروف أولادي، الذين يتعرضون للإحراج من هذا العمل، لكنّي أجده أفضل من مد يدي للناس، لست وحدي من يعمل، هناك نسوة كثيرات”، مضيفة “لا أخفيك أنّي أجد في غطاء الرأس والوجه ما يُساعدني في تجنب نظرات الناس، أبدأ عملي منذ الصباح وأحرص على جمع كميات كبيرة، وفي الغالب أكسب 10 آلاف ليرة سوريّة”.
وأوضح أصحاب “الخانات” لـ “أثر” أنهم يشترون مختلف المواد التي يجري فرزها حسب نوعها، إذ يتم شراء كيلو علب الكرتون بـ400 ليرة، ثم يتم بيعه خارج المحافظة بـ450، وكذلك الخردة بذات السعر، أما التنك فالكيلو منه يصل سعر شرائه إلى 200 ليرة، ويُباع بإجمال كمياته بـ250، ولكل مادة سعرها، ليتم شحنها خارج المحافظة لبيعها للمعامل التي تقوم بتدويرها، مضيفين “لا يقتصر عملنا على ما يجمعه هؤلاء، بل نشتري ما يبيعه الأهالي من مقتنيات انتهت صلاحيته من منازلهم”.
الخانات:
الخانات هي الأمكنة التي تُجمع فيها التوالف والمواد مُنتهية الصلاحيّة، ولوحظ في الآونة الأخيرة كثرة انتشارها، وفي هذا الصدد قال مختار حي الجورة كاسر حبش، لـ “أثر”: “مُتعارف عليه بأن هكذا مهن لا تزدهر سوى في ضواحي المدن، ومناطق السكن العشوائي”، مشيراً إلى أن أهالي حيي “الجورة والطب” يحتضنان الخانات لجمع وتخزين المواد المُشتراة، وأغلب من ينشط بهذه المهنة هم من الأطفال والنساء والفتيان، وما يجمعه أصحاب “الخانات” يُشحن إلى دمشق في هذه السنوات، مشيراً إلى أنه “سابقاً كانت معامل حلب الوجهة الوحيدة”.
وأكد حبش، أنه لا يوجد رقم محدد لعدد الخانات لكن يُظنُّ أنها تصل إلى 20 خاناً، على حين أشار أحد سكان الحي إلى أن عدد الخانات يتجاوز المئة خان، وينتشر معظمها في الأحياء الشرقيّة لمركز المحافظة؛ فالمقتنيات الخاصة تعرضت للخراب من أبواب ونوافذ، والأواني المنزليّة، والمعدات الكهربائيّة، وحديد المنازل وغيرها.
مهنة متجددة:
مهنة جمع التوالف في دير الزور رائجة منذ قرابة قرن، نشط فيها أصحاب كار جُلّهم من خارج المحافظة، فكان يُطلق على هؤلاء لقب “الحوا”، ويؤكد الباحث غسان الخفاجي في حديثه لـ”أثر” أن كلمة “حواج” جاءت من جمع الحاجيات، مُقايضاً إياها مقابل “العلكة” أو “السكاكر” وسواها، فيحصل على الأدوات والمواد مُنتهية الصلاحيّة، إذ يستأجر منزلاً في أطراف المدينة يضع فيه ما يجمعه، ثم يفرزها، ولاحقاً يشحنها إلى مدينة حلب حيث المصانع التي تستقبلها لتدويرها، وسُمي كذلك “الدّوار” وفي كلمة تهكميّة باللهجة المحكيّة يسمى “أبو الدراقيع”، مضيفاً أنه “حالياً ازدهرت ظاهرة جمع المواد منتهية الصلاحيّة وغيرها من التوالف، وهذه المهنة باتت حاجة كمصدر عيش للعوائل الفقيرة، ويمكن أن ترى فيها أنها ساهمت بنظافة المدن من مفرزات الحرب والدمار”.
الأطفال يتعرضون للابتزاز:
في الوقت الذي يؤكد فيه أهالي المحافظة أن هذه المهنة باتت تشكّل مصدر رزق رئيسي لعائلاتهم، يشير عدد منهم إلى مخاوفهم مما قد يتعرض له الأطفال من مخاطر ومضايقات وحالات ابتزاز لمجهودهم، ناهيك عن الآثار التي تُصيب من ترك دراسته ولم يُكمل تعليمه، ومنعكساتها على المجتمع ككل، مُتسائلين عن دور الجمعيات الخيريّة بهذا الشأن، ودور الجهات الاجتماعيّة في رصد عمالة الأطفال وآثارها في زمنٍ هو أحوج ما نكون فيه أن يتم التركيز على هؤلاء كي لا يتحولوا إلى قنابل موقوتة بأيدي المستغلين.
عثمان الخلف- دير الزور