خاص|| أثر برس تعمل الماكينة الدبلوماسية الأردنية، منذ سنوات عدة، لإبراز دورها بوصفها فاعلاً إقليمياً مؤثّراً في مستوى المنطقة من جهة، وفي مستوى الأزمة السورية من جهة أخرى. وظهرت المساعي الأردنية ظهوراً أكبر، منذ أشهر عدة مضت، في محاولة لإحداث تغيير فعلي ونوعي في مسار حلحلة الأزمة السورية، خاصة وأن ّالأردن حظي باستضافة لقاء (عمّان الخُماسي) وهو ثاني اجتماع عربي يتعلق بالشأن السوري بعد الاجتماع التشاوري الأول الذي أُجري في مدينة جدّة السعودية بتاريخ 14 نيسان 2023، وسبق ذلك مشاركته في الاجتماعات الثلاثية مرتين عن سوريا مع مصر والعراق.
ويأتي النشاط الدبلوماسي الأردني الراهن، في وقت يعيش فيه الأردن تحديات وأزمات داخلية وإقليمية عدّة، خاصة فيما يتعلق بالملفات “الاقتصادية أو الأمنية.. وغيرها”. وفي ظل هذه التحديات، يبقى التساؤل المطروح عن ماهية الدور الذي يؤديه الأردن حالياً، ولماذا بدأ تصدُّر الدور عربياً في سياق حلحلة الأزمة السورية؟ وهل سيتمكن من إحداث تحوّل جديد في مسارها خاصة فيما يتعلق بتقريب وجهات النظر بين دمشق وأنقرة، ومدة قدرتها في إقناع الأخيرة بضرورة الاستجابة لمطالب الدولة السورية؟ وكذلك حجم التأثير الذي يمكن أن تفعله المملكة فيما يتعلق بالموقف القطري تجاه سوريا؟ خاصة وأنّ عمّان والدوحة تتميزان بعلاقات اقتصادية وطيدة.
لماذا الأردن؟
يقول رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل: “في السياسة ليس هناك عدو دائم أو صديق دائم، هناك مصالح دائمة”. من هذه القاعدة الشهيرة في العلاقات الدولية، عاد الأردن لِنسج دوراً جديداً له في الساحة الإقليمية، إذ كانت عمّان في السنوات الأولى من الحرب على سوريا، قد اختارت نفسها رأس حربة في الحرب على سوريا، وذلك لاستضافتها ورعايتها غرفة عمليات (موك)، وحينها اتخذت الغرفة لنفسها معقلاً في الأراضي الأردنية عند الحدود الأردنية- السورية تُدرب فيها المجموعات المسلحة.
الدور الذي أداه الأردن في تلك المرحلة، لم يخرج عن علاقاته الوطيدة مع الولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية آنذاك، كما وتربطه مع الكيان الإسرائيلي علاقات متميزة واتفاقية سلام (اتفاقية وادي عربة) التي وقِّعت منذ تشرين الأول 1994، إلّا أنه أدرك في وقت متأخر من عمر الحرب العسكرية على سوريا، خطورة تمركز المجموعات المسلحة على أراضيه، ما دفعه إلى إعادة ترتيب أوراقه منذ أواخر عام 2016 عندما ضغط باتجاه إيقاف نشاط غرفة (موك) على أراضيه وإغلاقها، وبدأ يمهد تدريجياً لإعادة رسم علاقات جديدة مع دمشق، إلى أن اعتلى مسار المصالحة “السورية- العربية”، ويظهر اليوم ظهوراً أوضح يوحي بامتلاكه تأثيراً فاعلاً في مسار حلحلة الأزمة السورية في المستوى الإقليمي.
لماذا الأردن وما حجم تأثير استقرار سوريا فيه؟
في هذا الإطار بيّن أمين سر الأحزاب العربية عبد الله منيني في حديث لـ “أثر” طبيعة الحالة الأردنية التي دفعته نحو هذا التغيير الحاصل باتجاه حلحلة الأزمة السورية بالقول:”إن المملكة الأردنية الهاشمية في لحظة ما، ظنت أنّها شعرت بخطورة دعمها الجماعات المسلحة، وأيضاً استضافتها غرفة موك لأن الأردن بحكم ما يربطه بسوريا جغرافياً، واجتماعياً، واقتصادياً، يعد من أكثر المتأثرين بما يجري في سوريا، وبالتالي لم يستطع تحمل تبعات الحرب، وخاصة أنّ الأردن يشهد أزمة من أكبر الأزمات في تاريخه من حيث المديونية، والتضخم، والديون الخارجية، منها ما يتعلق بخلافات داخل العائلة المالكة”، مبيناً أنّ كل هذه الوسائل يجعل الأردن ملزماً بتأدية هذا الدور لأن استقرار سوريا حكماً له تأثيره الإيجابي في المملكة.
الدور الأردني المتبدل تجاه سوريا ليس جديداً، فمنذ عام 2017 كما ذكرنا آنفاً، بدأت عمّان الانسحاب ضمنياً من الدور الموكل إليها في سوريا، وربما يكون بتوافق غربي أمريكي- بريطاني. أضف إلى ذلك، أنّ الملك الأردني عبد الله الثاني أول زعيم عربي استقبله الرئيس الأمريكي الحالي جون بايدن بتاريخ 19 تموز 2021 بعد انتخابه رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية. وقالت حينها السكرتيرة الصحافية للبيت الأبيض جين ساكي، بحسب لما نقله موقع قناة “الحرة” الأمريكية آنذاك: إن “الاجتماع سيكون فرصة لمناقشة عدد من التحديات التي تواجه الشرق الأوسط وإبراز دور الأردن القيادي في تعزيز السلام والاستقرار في المنطقة”.
وفي هذا الإطار يعلق منيني بالقول: “السعي الأردني ليس وليد لحظة، لكن نلحظ أن هناك تسارعاً لافتاً في هذا الشأن، والأردن كان عاملاً فاعلاً رئيساً في اجتماع جدّة التشاوري، كما أُجريت نسخة أخرى منه في العاصمة عمان، وعلينا أن ندرك أنّ هذا الاجتماع التشاوري هو البوابة لإعادة اعتبار سوريا بدعوتها إلى القمة العربية وإعادة مؤسساتها إلى دورها الاعتيادي والفاعل في هذه الجامعة”، وأردف، “لذلك سعى الأردن بحراك دبلوماسي إلى محاولة تقريب وجهات النظر خاصة فيما يتعلق بالمواقف السورية الواضحة والمعلومة، ولكن كان هناك جهد واضح وخاصة في اللقاءات الثلاثية التي جرى استضافتها في مصر والعراق والأردن”.
حراك دبلوماسي أردني مكثف تجاه سوريا.. ما فرص نجاحه؟
برزت عودة العلاقات “السورية- الأردنية” بأعلى درجاتها بتاريخ 3 تشرين الأول عام 2021، عندما جرى اتصال هاتفي بين الرئيس بشار الأسد والملك الأردني عبد الله الثاني _بعد 44 يوماً من لقاء الملك عبد الله بالرئيس الأمريكي بواشنطن-_ وبُحثت في الاتصال حينها العلاقات الثنائية وتعزيز التعاون المشترك لما فيه مصلحة البلدين والشعبين الشقيقين، بحسب وكالة الأنباء الرسمية “سانا”.
ولحق باتصال الرئيس الأسد والملك عبد الله، لقاءات رسمية عدة بين مسؤولي البلدين، وجرى الاتصال الثاني بين الأسد والملك الأردني بتاريخ 7 شباط 2023 على خلفية الزلزال الذي ضرب البلاد، ثم لحقه زيارات رسمية، وكان وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي أول وزير خارجية عربي يزور دمشق بعد الزلزال.
ومنذ ذلك الوقت بدأ الحراك الدبلوماسي الأردني يُكثّف تجاه سوريا وكان آخره زيارة الصفدي دمشق بتاريخ 3 حزيران 2023 ولقاءه الرئيس الأسد ووزير الخارجية السوري فيصل المقداد، إذ تمت مناقشة أبرز الملفات بين البلدين وخاصة فيما يتعلق بملف اللاجئين.
وتوجه الصفدي بعد زيارته دمشق إلى تركيا، والتقى وزير الخارجية التركي حقّان فيدان بتاريخ 4 حزيران 2023، وبحث معه عدداً من الملفات المشتركة وخاصة فيما يتعلق بضرورة إرساء الاستقرار في المنطقة من أجل عودة المهجرين السوريين. ما يشير _بحسب الخبراء ربما_ إلى دخول الأردن في مسار التقارب “السوري – التركي” الذي اعْتلّت منها الدول الضامنة لـ “أستانا”، من دون إحداث أيّ تقدم فعلي على أراض والواقع.
وفي هذا الإطار، وعن إمكانية إحداث شيء جديد في مسار التقارب بين دمشق وأنقرة بوساطة الأردن، يعلق أمين سر الأحزاب العربي بالقول: “علينا أن ندرك أن اللاعب التركي، هو لاعب غير نزيه، وغير صادق، ويُبدع باللعب على المواقف، وتغيير الوعود تغييراً ملحوظاً، ليس فقط في مستوى الملف السوري، بل في كل الملفات بالمنطقة”. موضحاً أنّ ما تمارسه السياسة التركية اليوم هو ليس براغماتية وإنما قفز فوق البراغماتية وهو كذب سياسي لا يمكن أن يستمر بالتأكيد، ولكن برأي منيني، “الأردن يحاول أن يؤدي دوراً في تقريب وجهات النظر”، ولكن يظن أن “مساعيه لا يمكن أن تنجح النجاح المطلوب بسبب تعنّت التركي وعدم قبوله مطالب الدولة السورية المحقة والمشروعة”.
وتطالب الدولة السورية تركيا، بضرورة خروج القوات العسكرية التركية من الأراضي السورية التي تحتلها، بوصفه مطلباً أولياً لأي تقارب بين البلدين، إضافة إلى وقف دعم الإرهابيين وغيرها من المسائل المرتبطة بها، وفي هذا الإطار يعلق منيني بتأكيد أنّ “الجهود الأردنية في هذا المسار لا أظن أنّها ممكن أن تُأتي أُوكلها ولكن تبقى ضمن هذه الجهود في محاولة لإظهار سعي الطرف الأردني لتأدية دور أساسي والإيحاء بأنه مؤثر في هذه الملفات المهمة هذه من وجه نظره”.
وماذا عن زيارة الصفدي إلى قطر؟
في 17 حزيران 2023، التقى وزير الخارجية الأردني مباحثاتٍ وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، في الدوحة، ناقشا فيها قضايا عدّة من بينها الملف السوري. كما بحث الجانبان الدور العربي في جهود التوصل إلى حل سياسي لـ”الأزمة السورية” وفق منهجية “خطوة مقابل خطوة”، وبما ينسجم مع قرار مجلس الأمن “2254”، وفق ما نقلته وكالة الأنباء القطرية (قنا). وجاء لقاء الصفدي بابن عبد الرحمن آل ثاني بعد سلسلة لقاءات جرت بين دمشق وأنقرة تطرقت إلى الأزمة السورية.
وعن ماهية الدور الأردني حيال الموقف القطري تجاه الأزمة السورية، يرى منيني أنّ “السياسات القطرية لم تؤثر سلباً في سوريا فقط، بل كان تأثيرها حتى في دول الخليج”. مستذكراً الحصار الخليجي عليها قبل توقيع اتفاقية العُلا، وبرأيه ما جرى يشير إلى أن قطر تؤدي دوراً غير جيد إمّا في مستوى المحيط، أو في مستوى الإقليم أو المنطقة.
ويظن منيني أنّ هناك مصالح خاصة تربط العلاقات “القطرية- الأردنية”، خاصة وأن الأردن في مدة الحصار الذي فرضته دول الخليج عليها، بقيت علاقاته جيدة معها، وحتى أنّ قطر قدمت مساعدات مالية ضخمة للعاملين الأردنيين، وبالتالي هناك ملفات اقتصادية كبيرة تجمع البلدين، لافتاً إلى أنّ الدور الأردني في هذا الشأن يأتي في السياق الذي ذكرناه آنفاً.
وختم أمين سر الأحزاب العربية بتأكيد أنّ التحولات الكبيرة التي تجري في مستوى الأردن الداخلي والمنطقة والعالم، تجعله يعيد التفكير بتموضعه الحقيقي، وقال: “أظن أن أهم بوابة لإعادة هذا التموضع بما يخدم الشعب الأردني هو عودة العلاقات الكاملة مع سوريا وتأمين الأمن والاستقرار في المنطقة، والأردن معني تماماً بعودة الاستقرار في تلك المناطق الحدودية وأيضاً تنشيط خط التجارة بين الخليج وسوريا والذي كان يؤمن مورداً مهماً للحكومة الأردنية”.
قصي المحمد