خاص|| أثر برس بدأ الاهتمام بسياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان اتجاه الطائفة العلوية في كلمة له ردد فيها بالعربية «لا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار»، وها هو يتبع ذلك بقرار الاعتراف بالعلوية كمذهب، وإلحاق مؤسساتها بوزارة الثقافة، باعتبارها تمثّل أحد ألوان الفسيفساء الوطنية.
وانقسم المحللون في تفسير تصرفاته، ورأى بعضهم أنها تعبّر عن تخليه عن النهج الإخواني الإقصائي، ورأى آخرون أنها ليست سوى حيلة انتخابية، وكان للبعض رأي أكثر جذرية يعتبر أردوغان يمارس حيلة التمكين الإخوانية لا أكثر، أي التظاهر بالقبول بالوضع ريثما تتحسن الأوضاع ويتمكن من كشف قناعاته الحقيقية.
وإذا تسألنا عن الواقع في زحمة الآراء لا بد لنا من الاعتراف بأنها في مكانٍ ما تمس تلك الآراء كلها كلٍ بمقدار معين، ونعتقد بأنها لم تبلغ ذلك المدى العميق في كشف غور الشخصية الأردوغانية.
الحقيقة أن البداية لم تكن في تلك الكلمة، بل سبقها بأسابيع زيارة إلى تكية علوية بكداشية في إسطنبول، ولكن قبل استعراض التفاصيل يجب أن نميز حقائقاً هامة لن نفهم ما يجري دون فهمها:
الحقيقة الأولى: العلويون في تركيا ليسوا مذهباً واحداً بل عدة مذاهب، وليس بينها بالضرورة قرابة فقهية أو تاريخية، بل مجرد تمسك عمومي بآل البيت وشخص الإمام علي (ع).
الحقيقة الثانية: يغفل الكثير من دارسينا الانتماء الاثني للعلويين في تركيا، فهناك الأتراك الأقحاح والأكراد والظاظا وكمية ضئيلة من اللاز (بقايا الروم البيزنطيين) وصولاً إلى العلويين العرب (امتداد الساحل السوري)، ولا شك أن الانتماء الاثني يلعب دوراً في تقرير الموقف السياسي، فهناك علويون يجعلون انتماءهم الاثني في مكانة أعلى من الانتماء المذهبي.
الحقيقة الثالثة: السياسي المعارض كمال كيليتشدار أوغلو ليس علوياً، بل من أصول علوية، هو كان علوياً ثم أصبح مريداً لشيخ إحدى الطرق وأدى العمرة بصحبته، وهناك أدى طقوس تخليه التام عن مذهبه، بحسب ما كشف الباحث يالتشين كوتشوك، ولكن حتى الآن لم يُكشف اسم هذا الشيخ أو الطريقة.
ولنكمل: زار أردوغان ما يسمى «بيت الجمع» وهو دار عبادة للعلويين البكداشيين، وغالبيتهم أتراك أقحاح وينتسبون إلى شخصٍ اسمه حاج بكداش ولي، يقال إن نسبه ينتمي إلى الإمام الكاظم (ع) هاجر من خراسان إلى الأناضول وبدأ يبث دعوته ،وشكّل أتباعه لاحقاً عماد الجيش الانكشاري الشهير، رأس حربة الحروب العثمانية.
وانتشرت لاحقاً فضيحة لزيارة أردوغان، تبيّن أن رجاله قاموا بنزع اللوحات، كما هو واضح في الصورة المرفقة وتعليق لوحات أخرى، وأتى موظفون مختصون من القصر ليمارسوا الطقوس معه، ويتظاهروا بأنهم مواطنون عاديون. وفي هذه الأثناء كانت اللجنة المديرة لبيت الجمع تراقب من بعيد دون القدرة على التدخل، “كنا مثل المانيكان” علّق رئيس اللجنة بحسرة بعد الزيارة.
أردوغان هو هو، لم يتغير، تخيلوا مثلاً أن يزور رئيس مسلم كنيسة مسيحية، ويرفع رجاله الصلبان والأيقونات قبل وصوله.
بعد هذه الزيارة الفضيحة، أتت تلك الكلمة الشهيرة التي شاركتها كثير من صفحات التواصل الاجتماعي، وباتت حديث الساعة، ولحقها زيارة أخرى لـ«بيت جمع» آخر، في إسطنبول، وألقى كلمة استذكر فيها مقولات عرفانية وتصوفية لعدد من «آباء» الطريقة العلوية البكداشية.
وأعلن عن إنشاء هيئة للإشراف على «بيوت الجمع» ملحقة بوزارة الثقافة، وهذا سيعني بدوره تخصيص مبالغ مالية للإنفاق على هذه التكايا، ولكن لماذا ألحق الهيئة بوزارة الثقافة وليس برئاسة الشؤون الدينية؟ السبب هو أنه لا زال إخوانياً، ويكفّر العلويين، فهو يعتبرهم عنصراً ثقافياً لا مكوناً إسلامياً، كما أن الإشراف على عمل «بيوت الجمع» من قِبل موظفين مدنيين معينين تعييناً سيجعلها تحت تأثيرهم، وخاصة أنهم يحملون سيف التمويل؛ ولهذا صرّح رئيس إحدى الجمعيات العلوية البكداشية بالقول: «حتى الآن لم يتم الاعتراف ببيوت الجمع كمعابد، بل على العكس تم وضع اليد عليها».
والنقطة الهامة الأخرى هي سبب اعترافه بالبكداشيين وحدهم من بين كل المكونات المجموعة تحت مسمى العلوية، فأين هم القزلباش والخصيبيون والتختاجيون وسواهم؟ هذا يحيلنا إلى ما ذكرناه عن الانتماء الاثني الذي يسبق الانتماء المذهبي، فأغلب البكداشيين كما ذكرنا أتراك أقحاح، ومن الطبيعي ألا تعترف الدولة التركية بهم المبنية أساساً على الفكر الإقصائي بالعلويين من عرب وأكراد وسواهم.
ويضاف إلى ذلك سبب مهم جداً، وسنبدأ بشرحه من عام 1925، وبالتحديد من 13 كانون الأول منه، إذ صدر في الجريدة الرسمية قانون منع «الزوايا والتكايا والتربات» وكان أحد الانقلابات الجذرية، التي أتت بها الجمهورية الكمالية، وبموجب هذا القانون باتت تكايا الطرق الدينية المتشددة ممنوعة، ويعاقب عليها القانون.
والجدير بالذكر أن أردوغان نفسه هو أحد ربائب تكية متشددة، غير مشروعة قانوناً، هي الفرع الخالدي من الطريقة النقشبندية الشهيرة، ويقع مقرها في إسطنبول، وينحدر منها ذلك عدد كبير من أبرز رجال السلطة الحاليين، والذين لم يتمكنوا بعد أكثر من عشرين عاماً من الحكم من رفع هذا المنع؛ ولهذا غيّر أردوغان التكتيك، وبادر إلى الهجوم الالتفافي إن جاز التعبير، فهو أجاز في القرار الذي أصدره «بيوت الجمع العلوية» التي هي قريبة بمفهومها من التكايا السنية، وحضَّر بذلك الأرضية لكي تبدأ المطالبات بالسماح للتكايا بالعمل أسوة بالعلويين، وعندها لن يكون بإمكان المعارضة المحرجة معارضته.
سيجري السماح للطرق تلك، والتي هي طرق تسير على هامش المذهب السني وليست من صميمه بالنشاط مجدداً، بل بتمويل من الخزينة العامة.
سومر سلطان