خاص|| أثر برس لم يشهد العالم صراعاً في العصر الحديث مثل قضية إنشاء دولةٍ للشعب الفلسطيني بعيداً عن سطوة الإسرائيليين منذ عام 1948، في ظل استمرار وجود حكومات صعد فيها اليمين القومي الديني الإسرائيلي المتطرف مُهيمناً على مجرى الحياة السياسية الإسرائيلية، ومفاصل المؤسسات كافة في كِيان الاحتلال، منذ أن فاز “حزب الليكود” اليميني -يرأسه بنيامين نتنياهو اليوم- في الانتخابات عام 1977، وهم يمثّلون استمراراً للأشكيناز الغربيين الذين يعود إليهم تأسيس الكِيان على وقع المجازر التي حصلت وتحصل بحق الفلسطينيين حتى اليوم.
وبما أن جوهر الصراع كان دائماً بالنسبة إلى الإسرائيليين يتمحور بالسيطرة على الضفة الغربية وفي قلبها القدس الشرقية، فإن جميع المبادرات والمعاهدات الفلسطينية والعربية كانت تتمحور بالحق الفلسطيني في هذا الشأن، وهذا يعود لسبب، هو أنّ الأمم المتحدة شرّعت وجود “إسرائيل” منذ عام 1947، عندما أصدرت القرار 181، القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، حيث كانت الضفة الغربية حينها ضمن الأراضي العربية، وضمتها الأردن رسمياً عام 1950، غير أن “إسرائيل” شنت عام 1967 حرباً احتلت فيها بقية فلسطين، وضمت القدس الشرقية، ووضعت الضفة الغربية وغزة تحت حكم عسكري، إذاً يجب أن نعلم بأن القانون الدولي والأمم المتحدة تعترف بـ “إسرائيل” على حدود ما قبل الرابع من حزيران 1967.
ومن هذا المنطلق نؤسس أنّ المبادرات العربية التي قادتها السعودية منذ عام 1982، عندما وافقت القمة العربية التي عُقدت في مدينة فاس المغربية على (مشروع الأمير فهد)، وتالياً مبادرة السلام العربية التي أطلقها الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد السعودي في حينه، على أساس معادلة “الأرض في مقابل السلام” التي تبناها بالإجماع مؤتمر القمة العربية الذي عُقد في بيروت عام 2003، يقوم على هذه المعادلة.
واليوم تعود السعودية بدعم من ولي العهد محمد بن سلمان إلى إطلاق (التحالف الدولي لحل الدولتين) وذلك على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل نحو شهرين، والذي عُقدت أولى اجتماعاته في الرياض مؤخراً، بشكلٍ ينسجم تماماً مع المبادرتين السابقتين، أي دعوة “إسرائيل” إلى إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية (في الضفة الغربية)، لكن الجديد اليوم هو أنّ يكون شرط إقامة دولة فلسطينية، أساسأ للتطبيع السعودي- الإسرائيلي، وإقامة العلاقات الدبلوماسية بينهما، في حين كانت المبادرتين العربيتين السابقتين بقيادة السعودية، أن يكون شرط إقامة الدولة الفلسطينية، أساساً للاعتراف العربي بدولة “إسرائيل”.
ودعمت السعودية مبادرتها الجديدة عبر مقال نشره وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان آل سعود في صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية في 2 تشرين الأول، يدعو فيه إسرائيل إلى إقامة دولة فلسطينية، حيث يعلو صوت الاعتدال فوق ضجيج الصراع من قِبل الفلسطينيين والإسرائيليين على السواء.
لم يختار الفلسطينيون المقاومة من تلقاء أنفسهم، إذ سعوا إلى السلام في مبادراتهم مع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، ولكن، ماذا حصلوا من اتفاقية “أوسلو” عام 1993، التي قادتها “منظمة التحرير الفلسطينية” بقيادة ياسر عرفات في حينه؟، وبماذا استجابت “إسرائيل” على المبادرات العربية سوى زيادة الاستيطان والقتل في الأراضي المحتلة.
في اتّفاق “أوسلو” لم تعطي “إسرائيل” للسلطة الفلسطينية غير جزء من الصلاحيات الأمنية على الفلسطينيين -سنشرحها لاحقاً- في المقابل لم تعطها أي صلاحية على الأرض، وبالتالي استولت على المصادر الطبيعية لتترك الفلسطينيين من دون أي إمكانية للعيش إلاّ اعتماداً على المقايضة في “إسرائيل” بعملتها (الشيكل)، أو على أموال الدول المانحة، وإما أن يزداد الاقتصاد الفلسطيني التصاقاً واعتماداً على الاقتصاد الإسرائيلي.
إذ كان الاقتصاديون المحيطين بشمعون بيريز آنذاك، هم الذين دفعوا “إسرائيل” إلى توقيع “أوسلو”، هؤلاء كانوا يمثّلون الصناعات التقليدية الكلاسيكية، وكان حلمهم أن يتوسع الاقتصاد الإسرائيلي إلى الأسواق العربية في مرحلة أولى، ثم يتحالف رأس المال العربي مع رأس المال الإسرائيلي في المرحلة الثانية، ومع تطور الصناعات التكنولوجية الإسرائيلية فيما بعد لم يعد الإسرائيليون بحاجة إلى استثمار الاقتصاد السياسي.
وبالعودة إلى “أوسلو”، فإنه على الرغم من التنازل الفلسطيني عن إقامة دولة فلسطينية في مقابل إنشاء “حكم ذاتي” في جزء من “الضفة الغربية وقطاع غزة” وفق خطة تُنجز بخمس مراحل، فإنّ السلطة الفلسطينية لم تحصل على التزام إسرائيلي بإنهاء الاحتلال، بينما حصلت “إسرائيل” على الاعتراف بدولتها، كون منظمة التحرير الفلسطينية كانت تمثّل الشعب الفلسطيني في حينه.
وامتداداً لـ “أوسلو”، تم توقيع اتفاقاً أمنياً مع إسرائيل عام 1995، جرى بموجبه تقسيم “الضفة الغربية” إلى ثلاث مناطق: المنطقة (أ)، وهي تحت السيطرة الفلسطينية الكاملة، وتشكل نحو 18% من مساحة الضفة، والمنطقة (ب)، وهي تحت السيطرة المدنية الفلسطينية والسيطرة الأمنية الإسرائيلية، وتشكّل نحو 22% من المساحة، وأخيراً المنطقة (ج)، وهي منطقة تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة، وتشكل نحو 60% من مساحة الضفة. ورغم الاتفاقية، استمرت “إسرائيل” في توسيع المستوطنات في المنطقة.
واليوم تعلو الأصوات الإسرائيلية بشأن نيّة ضمّ الجزء المتبقي من “الضفة الغربية” لتصبح تحت السيطرة الإسرائيلية بشكل كامل خلال مدة تولّي دونالد ترامب الرئاسة الأمريكية، بعد أن أصدر قراراً خلال عهده الأول عام 2017 تضمّن الاعتراف بالقدس عاصمةً لـ “إسرائيل”، وفي هذا الشأن صرّح وزير مالية الاحتلال الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، في 11 تشرين الأول الجاري بأنّه أصدر تعليمات للتحضير لبسط السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، التي يسمونها (يهودا والسامرة) في التوراتية اليهودية، آملاً أن يجري تنفيذ هذه الخطة خلال العام المقبل.
منذ أن احتلت بريطانيا فلسطين عام 1917، تمحور منطلق السياسة البريطانية في فلسطين حول “إنشاء وطن قومي لليهود”، بناءً على وعد بلفور الصادر في تشرين الثاني 1917، إذ أعطى من “لا يملك لمن لا يستحق”.
علي أصفهاني